يعمل مؤيّدو إسرائيل بلا هوادة على “شيطنة” الحراك الجامعي في الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا، ووضعه تحت عنوان عريض اسمه “معاداة السامية”.
وحتى ينجحوا في ذلك يجهد هؤلاء “الفلاسفة” في إدخال تعديلات على مفهوم مصطلح “معاداة السامية”، بحيث انتقلت “معاداة السامية” من كونها اضطهاد ل”العرق” السامي الذي كان يمثله، تاريخيًّا، مع غياب الوجود الشرقي الوازن سابقًا في أوروبا، اليهود، الى مناهضة الصهيونية فمعارضة دولة إسرائيل!
الإضطرار الى تطوير مفهوم “معاداة السامية” ينبع من أنّ غالبية القادمين الى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية ودول “الهجرة” من الشرق هم ساميّون، وبالتالي إذا بقي مفهوم “السامية” مستقرًا في ثنايا التعريف التاريخي، فهذا يعني أنّ أوروبا تشهد، حاليًا، صراعًا، هو في غالبيّته، بين الساميّين أنفسهم، في وقت ينقسم فيه غير الساميّين، بين مؤيّد للسردية الإسرائيلية ومناصر للقضية الفلسطينية. وفي هذه الحال، يفقد الإسرائيليّون زخمًا يعينهم في الدعاية السياسية، أي القدرة على مزج الحاضر بالتاريخ المليء ب”الندب الذاتي” في غرب يتم تصوريره كوريث لمحاكم التفتيش والتهجير الديني والإجرام النازي!
في الواقع، لم يعد التكوين الديموغرافي في الغرب مشابهًا لما كان عليه تاريخيًّا، بحيث أصبحت المجموعات الشعبية اليهودية على تماس مع مجموعات شعبية شرقية كثيرة العدد، وتضم أطياف المسلمين والمسيحيين بالإضافة طبعا الى مهاجرين آسيويين وإفريقيين لا تنتمي غالبيتهم الساحقة الى أيّ من الأديان التوحيدية.
وقد أدى التفاعل الثقافي والفكري والإجتماعي والسياسي، وهو يتميّز بقدر عال من الحريّة، الى تغيير كبير في المفاهيم السائدة، ومن بينها، “معاداة السامية” ورفض الدمج بين اليهود وإسرائيل، تمامًا كما يفصل كثير من المسلمين بين دينهم والأنظمة التي تتحكم بالدول التي اضطروا على مدى عقود إلى هجرها.
ولا يشبه الجيل الشبابي الحال، بتنوّعاته، الجيل الشبابي السابق، بحيث إنّ الإختلاط الإجتماعي والعاطفي والثقافي والفكري أنتج إعادة نظر بالمفاهيم.
وكما هي الامور، منذ زمن طويل، فإنّ فئة لا يستهان بها من جيل الشباب تتفاعل كثيرًا مع الأفكار الجديدة، إذ تميل طبيعيًّا الى التغيير بالإستناد الى المثل العليا وعدم الإكتراث بقوة الضغط النفعيّة!
وعليه، فإنّ الضمير العالمي عمومًا والشبابي خصوصًا لم يحتمل هذه النسبة المرعبة من العنف الإسرائيلي ضد الفلسطينيين في غزة، فانتفضت فئة من الشباب الغربي ضد دعم حكوماتها لإسرائيل، متأثرة بالعاطفة الجيّاشة لدى المتعاطفين تاريخيًّا مع القضية الفلسطينية.
وجيل الشباب الغربي عمومًا والأوروبي خصوصًا، وهو تربّى على مناهضة عقوبة الإعدام، لا يمكنه أن يقبل، حتى لو فهم وجهة نظر إسرائيل من خطورة هجوم السابع من أكتوبر الماضي ضد غلاف غزة، أن يكون العقاب بهذه الوحشية، كما بيّنتها المشاهد الصادرة من غزة، وكما وصفتها المؤسسات الدولية وصنّفتها محكمة العدل الدولية.
وبغض النظر عن الأخبار النادرة التي يتم تضخيمها عن معاملة سيّئة يتلقاها بعض الطلاب المنتمين الى الديانة اليهودية، في الجامعات الأميركية والفرنسية، فإنّ هناك نسبة- ولو لم تكن كبيرة- من اليهود قد انضمت الى الحركة الإحتجاجية هنا أو أيّدتها هناك.
ولا يمكن اعتبار اليهود الذين يتظاهرون في إسرائيل نفسها، وبوتيرة تصاعدية، من “اعداء السامية”، فلهؤلاء أيضًا وجهة نظرهم من الحرب والسلم، والعنف والرد غير المتناسب، والعقاب الجماعي.
ولا يمكن في هذا السياق، السؤال عمّا فعله هؤلاء الطلاب في المسألة السورية، على سبيل المثال لا الحصر، لأنّ الحكومات الغربية لم تقف، أقله في ظاهر الحال، داعمة للنظام الذي يتولّى عمليات القتل والسحل والإعتقال والتهجير.
إنّ المسألة اليهودية في الشرق والغرب لم تعد محور مخطط إلغائي، فهي، في هذا السياق، وضعها مثل وضع المسائل الدينية الأخرى، أي أنّ الخطر الذي يواجهها يواجه الآخرين الذين يضعهم المتطرفون في المرصاد.
إنّ الموضوع الراهن، في كل مكان، هو مستقبل العلاقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
غالبية الطلاب المحتجين في جامعات الغرب ينشدون وقف الحرب، من جهة وإيجاد حل سلمي لهذا الصراع التاريخي، على قاعدة إعطاء كل ذي حق حقه، من جهة أخرى.
مشكلة إسرائيل عند جيل الشباب تكمن في قناعتهم بأنّها تقتل كل مسعى سلمي سليم، وترفض أن تسلّم بحق الفلسطينيين بدولة قابلة للحياة.
والوقوف الى جانب حقوق الفلسطينيّين، ولو اتخذ في بعض الأحيان شكلًا حادًا، مثل دعم مفهوم المقاومة العنفية، إلّا أنّه، وبالإذن ممّن يدخلون تعديلات على المفهوم، ليسوا ضد السامية!