في الحسابات الباردة، تبدو أخطار توسيع الحرب بين إسرائيل و”حزب الله” ضئيلة، إذ إنّ صاحبَي القرار وداعميهما لا يرغبون بها.
ولكنّ آليّات صناعة قرار توسيع هذه الحرب التي تحافظ على “وتيرة مضبوطة” منذ بدأها “حزب الله” في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، تختلف هذه المرة، لأنّها، كما بات واضحاً، ليست “كلاسيكية”، لأنّها ليست متروكة حصراً للمستوى السياسي في إسرائيل – حيث تنعدم الرغبة - بل يشارك فيها المستوى الشعبي!
في العادة، تحضّر الحكومة الرأي العام لحرب ترغب بها. في إسرائيل، هذه المرة، يبدو أنّ الرأي العام هو الذي يحضر المستوى السياسي لحرب ضد “حزب الله” يرغب هو بها.
التنظيمات التي تتحرك باسم سكان شمال إسرائيل تحوّلت في الواقع إلى قوة ضغط هائلة على حكومة نتنياهو، وباتت، بعد حملة تضمنت المؤتمرات الصحافية والجولات الميدانية ونشر الدراسات والتواصل مع وسائل الإعلام العالمية وتنظيم تظاهرات دورية وصلت إلى تل أبيب، محور استقطاب، ليس لكبار المسؤولين الإسرائيليين الذين يتوافدون إلى الشمال فحسب، بل لكبار الزوار الدوليين أيضاً!
شماليّو إسرائيل لا يريدون حلاً دبلوماسياً. التجربة الممتدة من عام 2006 حتى السابع من تشرين الأو ل (أكتوبر) الماضي أفهمتهم أنّ الدبلوماسيّة، أياً كانت نتائجها، تصب في خدمة “حزب الله”. القرار 1701 كان يفترض به إنهاء كل مخاطر الحرب، ولكن اتضح أنّه كان فترة تحضير للحرب.
شماليّو إسرائيل بكّروا في رفض المبادرة الفرنسية، لأنّها، بالنسبة إليهم، مثلها مثل وحدتها العاملة في اليونيفيل “تسترضي” “حزب الله” أكثر ممّا تتصدّى له. وقبل يومين، كشفت الخارجية الفرنسية أنّ إسرائيل تمتنع، حتى تاريخه، عن تقديم جوابها على مبادرتها الخاصة بالجبهة اللبنانية - الإسرائيلية. في الواقع، لا تستطيع حكومة نتنياهو أن تفعل، في ضوء المعارضة الشمالية الحاسمة لهذه المبادرة. قبل موقف الخارجية الفرنسية كانت الصحافة الإسرائيلية قد تحدثت عن أن الحكومة قد رفضتها، بعد أيّام قليلة على تسلمها من ستيفان سيجورنيه.
وآموس هوكشتاين، على الرغم من أنه يواظب على التسويق لـ”خريطة الطريق” التي يقترحها لإعادة الهدوء إلى الجبهة اللبنانية - الإسرائيلية، يدرك أنّ أوانه لم يحن بعد، وأن الزمن لا يعمل لمصلحته، خصوصاً أن الإدارة التي يتحدث باسمها على قاب قوسين أو أدنى من الانخراط في حملة انتخابية قد تنتهي إلى نتائج ليست في مصلحة استمرار مهمته. أكثر من ذلك، هو يعرف أنّ الحلول التي يمكن أن تُرضي سكان شمال إسرائيل لن يقبل بها “حزب الله” ، وما يمكن أن يقبل به “حزب الله” يستحيل أن يوافق عليه الإسرائيليون.
وسكان شمال إسرائيل في تعاطيهم مع حكومتهم التي تتشكل من قوى تحتاج إلى أصواتهم في صناديق الاقتراع، يهددون، إذا امتنعت حكومتهم عن خلق معادلات ميدانية جديدة مع الحدود اللبنانية، إما بالانفصال عن المركز أو بعدم العودة نهائياً إلى منطقتهم!
وهذه المعادلات الجديدة يستحيل تحقيقها بالدبلوماسية، فـ”حزب الله” لم يفعل كل ما يفعله، حتى يتقهقر!
صناعة القرار من خلال الضغط الشعبي ليست جديدة في إسرائيل. الباحثون الإستراتيجيون فيها يؤكدون أنّ احتلال الجولان في عام 1967، كان قراراً شعبياً فُرض على الحكومة.
وفق رواية هؤلاء، وقد وثقها إفرام غانور، في صحيفة “معاريف” الإسرائيلية التي تعطي الشماليّين، في الآونة الأخيرة، حيّزاً كبيراً من الاهتمام، فإنّ قائد المنطقة الشمالية، آنذاك، اللواء ديفيد إليعيزر انتظر مع أوامر عملية “مكبث” لاحتلال المواقع السورية في هضبة الجولان موافقة موشيه دايان. وزير الدفاع خاف من التهديدات التي وصلت من الاتحاد السوفياتي الذي طالب بوقف الحرب فوراً وعدم مهاجمة سوريا. وزير الدفاع الذي كان يعاني جرّاء خوف هوسي من الاتحاد السوفياتي، ومن تهديداته، أوقف الهجوم الإسرائيلي على السوريين المتحصّنين في الهضبة. لكنّ رئيس مستوطنات الشمال وسهل الحولة، الذي رأى في الحرب فرصة لن تتكرر لإنهاء المعاناة، لم يتنازل، فقام مع قائد المنطقة الشمالية، وبمساعدة وزير العمل، آنذاك، يغآل ألون، وبموافقة رئيس الحكومة ليفي أشكول، بحضور جلسة الحكومة في 8 حزيران (يونيو) 1967، وطالب بحدّة دايان ووزراء المجلس الوزاري الأمني المصغر بعدم إنهاء هذه الحرب من دون احتلال المواقع السورية في هضبة الجولان، وبهذه الطريقة، تنتهي معاناتهم المستمرة منذ وقت طويل.
ترأس وفد رؤساء المستوطنات يعقوب أشكولي، من كيبوتس كفار جلعادي، والذي صرخ في وجه دايان والوزراء بغضب، قائلاً: “أخبروني، هل نحن جزء من هذه الدولة، ومن حقنا أن يدافع الجيش الإسرائيلي عنا كما يدافع عن سائر الدولة كي نفهم”. على الرغم من الغضب والتأييد لمستوطنات الشمال، ظل دايان مصراً على رفضه، لكنه طرح في مرحلة معينة فكرة واهية، نقل جزء من المستوطنات إلى غرب الحدود السورية. في نهاية الأمر، جرى الضغط على دايان واقتنع. وفي اليوم التالي، وافق على بدء الهجوم على هضبة الجولان.
وإذا ما جرت مقارنة الأجواء الشعبية في عام 1967 وأدت إلى تجاوز إسرائيل للتهديد الروسي والإقدام على احتلال الجولان، بالأجواء الشعبية في شمال إسرائيل اليوم، فيمكن القول إن “التاريخ يعيد نفسه” وأحياناً بالأدبيّات نفسها.
ثمة توقعات في تل أبيب بأنّ القرار النهائي بخصوص مستقبل طبيعة الحرب بين إسرائيل و”حزب الله” سوف يتحدد بعد إنهاء الفرقة 98 في الجيش الإسرائيلي مهماتها، في مخيم جباليا في غزة، بحيث يجري إلحاقها بجبهة لبنان.
صباح أمس، أعلن الجيش الإسرائيلي انتهاء هذه المهمة!