قيل الكثير عن تعمّد بنيامين نتنياهو إطالة مدة الحرب والتوسع في أهدافها بغية الحفاظ على ائتلافه الحكومي والبقاء في السلطة كي يبعد عن نفسه كأس المساءلة وتحمل المسؤولية عن الفشل الفاضح في توقع ومنع عملية السابع من تشرين اول من العام الماضي. ولهذه الغاية تحكّم بمجريات العمليات العسكرية وبتوقيت تطوراتها الميدانية تصعيدا او تهدئة على كافة الجبهات وذلك بحسب ما تمليه ساعته السياسية الخاصة معتمدا أسلوب الغموض في تحديد واضح لأهداف الحرب.
واستفاضت التعليقات في وصف دهاء ادارته للحملات الدعائية للتأثير على الرأي العام كلما ازدادت عليه الضغوط الشعبية والسياسية والدبلوماسية او كلما أراد اجراء انعطافة في استراتيجيته الحربية او تعديل الأهداف التي يسعى لتحقيقها. وقد تجلّت مواهبه في هذا المجال في الموضوع الأكثر حساسية لدى الرأي العام الإسرائيلي والاكثر اثارة للانقسام الداخلي وهو موضوع الرهائن الإسرائيليين لدى حماس حيث نجح في التغطية على كافة محاولاته في إعاقة التوصل الى اتفاق للإفراج عنهم عند كل مفترق تفاوضي كان يقترب من حسم هذا الملف.
منذ أيام قليلة بدأت وسائل الاعلام الإسرائيلية كما العديد من السياسيين الإسرائيليين بتناول قضية اعتقال موظفين في مكتب رئيس الوزراء، للتحقيق معهم في قضية تسريب وثائق سرية تتعلّق بلمف المفاو ضات حول الرهائن، الى الاعلام الغربي، وتبين بأنّ القضية تتمحور بشكل أساسي حول أحد مساعدي نتنياهو.
في البداية نفى مكتب نتنياهو اعتقال أي شخص من المقربين منه، ثم ما لبث ان اعترف المكتب بذلك مقللا من أهمية المسألة وبأن الشخص المقصود لم يكن في موقع يخوّله الاطلاع على أية وثائق سرية وانه لم يكن يحضر اية اجتماعات سرية. الاحد كشفت المحكمة التي تتولى القضية عن هوية الموقوف الأساسي.
الشخص المعني يدعى ايلي فيلدشتاين، وهو الناطق باسم رئيس الحكومة الذي اتى به نتنياهو الى هذا الموقع من دون ان يتمكن من الحصول على التصريح الأمني المطلوب لمثل هذه المهمة. فيلدشتاين يهودي ارثوذوكسي متطرف وضابط سابق في الجيش عمل وفقًا لموقع Ynet الإخباري في وحدة المتحدث باسم الجيش حيث كلّف بمهمة المتحدّث باسم كتيبة نيتسح يهودا الدينية في فرقة الضفة الغربية. بعد تسريحه من الجيش، عمل فيلديشتيان لفترة وجيزة متحدثًا باسم رئيس حزب أوتزما يهوديت المتطرف إيتمار بن غفير، الذي يشغل الآن منصب وزير الأمن القومي.
بحسب ما نقلته الصحافة الإسرائيلية مدعما بالعديد من الصور الفوتوغرافية، فإنّ فيلديشتاين يعد من المقربين لنتنياهو، وكان يرافقه في الكثير من جولاته الميدانية ومن ضمنها أماكن شديدة الحساسية الأمنية بالإضافة لتواجده الى جانب نتنياهو في العديد من الاجتماعات ذات البعد الأمني والعسكري، تؤهله للوصول الى المعلومات والوثائق المصنفة سرية، فضلا عن تكليفه بالقيام بالعديد من المهام خارج البلاد مما يدحض مزاعم مكتب رئيس الحكومة بخصوصه.
لماذا يعطي سياسيو إسرائيل وصحافتها كل تلك الأهمية لقضية التسريب هذه؟ ولماذا يخشى نتنياهو من توسع التحقيقات فيها ومن تداعياتها السياسية عليه؟
لرئيس الوزراء الإسرائيلي باع طويل في مثل هذه القضايا وهو شديد الحرص على عدم ترك أي أثر مادي يمكن ان يورطه شخصيا وهو لا يتردّد في النأي بنفسه عن أي شخص مهما كان مقربا منه، عندما تحوم حوله الشبهات.
ما يخشاه نتنياهو من موضوع التسريبات في حال توسعها لتصبح مسألة رأي عام هو احتمال ان يتم الكشف على الملء لخفايا ماكينته الدعائية والوسائل القذرة التي تستخدمها للتلاعب بالمزاج الشعبي في ما خصّ قضية ترتقي في ثقافة المجتمع الإسرائيلي الى مرتبة قدس الاقداس أي حياة المواطن اليهودي والمتمثلة في هذه المرحلة بموضوع الرهائن لدى حماس.
تعود احداث قضية التسريبات الى النصف الأول من شهر أيلول الماضي والذي شهدت بدايته الإعلان عن مقتل ست رهائن إسرائيليين على يد عناصر من حركة حماس. شكلت تلك الحادثة صدمة كبرى في إسرائيل ادّت الى ارتفاع الضغط الشعبي والسياسي بشكل غير مسبوق على الحكومة الإسرائيلية للمطالبة بالإسراع في انجاز الاتفاق مع حركة حماس للإفراج عمّن تبقى من الرهائن. كما تخلل هذا الحراك الشعبي اتهامات لنتنياهو بالتسبب شخصيا بمقتل الرهائن الست لإفشاله اتفاقا كان على وشك الإنجاز خلال شهر تموز علما ان ثلاثة من القتلى الستة كانت أسماؤهم مدرجة على لوائح الرهائن المزمع الافراج عنهم في سياق هذا الاتفاق. سارع نتنياهو للردّ على الحملة بتنظيم حملة مضادة لتبرير اشتراطاته الإضافية لإبرام الصفقة مع حماس متهما الحركة وزعيمها يحيى السنوار بالعرقلة وبالرغبة في مواصلة القتال. غير ان ما اعطى حملة رئيس الوزراء المضادة فعاليتها الحقيقية واعتمد عليها في تبريراته جاء بشكل خاص على إثر التغطية الإعلامية الواسعة النطاق في إسرائيل لما نشرته وسيلتان اعلاميتان في بريطانيا وألمانيا اعتمدت فيه الأولى على معلومات استخبارية كاذبة مصدرها إسرائيل بينما اتكأت الثانية على وثيقة سرية مسرًبة أيضا من الدوائر الإسرائيلية الرسمية.
فقد نشرت صحيفة “جويش كرونيكل” البريطانية تقريرا يعتمد على معلومات استخباراتية تفيد عن مخاوف من أن يقوم السنوار بتهريب الرهائن إلى إيران عبر مصر، الأمر الذي يستلزم استمرار سيطرة إسرائيل على فيلادلفيا وهي الحجة التي استند اليها نتنياهو، مخالفا تقييم القيادة العسكرية، لإضافة الاحتفاظ على ممر فيلاديلفيا تحت السيطرة الجيش الإسرائيلي كشرط لإبرام أي اتفاق مع حماس. وبعد ان ايقنت الصحيفة ان المعلومات التي استند اليها التقرير كانت كاذبة بادرت الى حذفه عن موقعها والى طرد الصحافي كاتب التقرير. فيما عرضت صحيفة “بيلد” الألمانية الواسعة الانتشار ما وصفته بوثائق استخباراتية سرية من إسرائيل، تفيد بأن السنوار لا يريد صفقة رهائن على الإطلاق مؤكدة مزاعم نتنياهو في هذا الخصوص.
وبالاستناد الى الضجة الإعلامية التي أثارها في إسرائيل مضمون ما جاء في الصحيفتين الاوروبيتين فقد ادّت الحملة المضادة وظيفتها في مقاومة موجة الضغط العالية على الحكومة الى ان هدأت الاحتجاجات بعد ان سرقت كافة الأضواء تطورات الساحة اللبنانية المتسارعة من تفجيرات البايجر الى اغتيال امين عام حزب الله فالتصعيد الشامل على الجبهة الشمالية.
اعتبر الجيش الإسرائيلي ان مسألة التسريبات تدلّ على أن هناك استخداماً لمعلومات استخباراتية محلية حساسة تضر بمصداقيته فضلا عن انها قد تؤثّر على مجريات العمليات العسكرية، ففتح قسم أمن المعلومات في الجيش تحقيقاً بالموضوع، كُلّف فيه لاحقا، وبسبب خطورته، جهاز الأمن الداخلي (شين بيت)، الذي يتمتع بخبرة أكبر ويتمتع بسلطات تحقيق أوسع ما ادّى منذ أيام الى توقيف العديد من المشتبه بهم وعلى رأسهم فيدلشتاين.
قد تنتهي هذه القضية بإدانة بعض المقربين من رئيس الوزراء الإسرائيلي من دون تنال على الأرجح من الأخير جنائيا، ولكن هل يتمكن نتنياهو كما في المرات السابقة من النجاة من تداعياتها السياسية؟
المسألة ما زالت في بداياتها وهي جديرة بالمتابعة.