برّر رئيس “تيّار المستقبل” سعد الحريري تعليق عمله السياسي، في “خطبة الوداع” التي ألقاها في “بيت الوسط” البيروتي، في الرابع والعشرين من كانون الثاني 2022 بجملة معطيات كان أبرزها الآتي:
أوّلًا: اقتناعه بأنّ “لا مجال لأيّ فرصة إيجابية للبنان في ظل النفوذ الإيراني والتخبط الدولي والإنقسام الوطني واستعار الطائفية واهتراء الدولة”.
ثانيًّا: اعتباره أنّ “منع الحرب الاهلية فرض عليه تسويات أتت على حسابي وسببت (…) خسارتي لثروتي الشخصية وبعض صداقاتي الخارجية والكثير من تحالفاتي الوطنية وبعض الرفاق وحتى الاخوة”.
ثالثًا: “لا يمكنني تحمّل ان يعتبرني عدد من اللبنانيين أحد اركان السلطة التي تسببت بالكارثة والمانعة لأي تمثيل سياسي جديد من شأنه ان ينتج حلولا لبلدنا وشعبنا”.
وقد عكس هذا الخطاب، بأمانة، ما كان يقوله الرئيس سعد الحريري في الكواليس قبل إعلان قراره، إذ إنّه لا يمكن لمن “أفلس” ماليًّا أن يقود عمليّة سياسيّة معقدة، كما لا يمكن لمن خسر تحالفاته أن ينتج تسويات جديدة، ويستحيل على من يتهمه الشارع بأنّه ركن أساسي في الإنهيار أن يقود عمليّة إصلاح، والأهم أنّه لا يمكن لمن فقد داعمًا كبيرًا مثل المملكة العربيّة السعوديّة أن ينفّذ رؤية إنقاذية، خصوصًا مع التمادي الذي لا يمكن القفز فوقه للنفوذ الإيراني في البلاد.
ما الذي تغيّر حاليًّا حتى يغيّر الرئيس سعد الحريري قراره؟
على مستوى الأسباب الموجبة المعلنة في 24 كانون الثاني 2024، لم يبقَ القديم على قدمه فحسب، بل أصبح أكثر اهتراء، أيضًا.
لا الحريري استعاد ثروته بعد، فمدة سنتين من العمل في دولة الإمارات العربيّة ، حتى لو كانت في تنقيب جبال الذهب، ليست كافية لتعويض ما ضاع، خصوصًا وأنّ آخر إطلالات “مالية” لسعد الحريري على اللبنانيين كانت في إنهاء خدمات مجموعات جديدة من العاملين في ما تبقى له من مؤسسات سياسية وإعلامية وخدماتية.
ولا علاقاته الخارجية استعادت زخمها المنشود، فهو، منذ سنتين حتى اليوم، أطلّ، مرة واحدة في تركيا، فيما يطل عبر مبعوثه الشخصي الى موسكو جورج شعبان، بين الحين والآخر، في مكتب المسؤول في وزارة الخارجية الروسية ميخائيل بوغدانوف. وباستثناء تسريبات مقربين منه، بنت نفسها على إشارات ضعيفة، لم يظهر أنّ ثمة زخمًا جديدًا طرأ على تواصله مع المملكة العربية السعودية تحديدًا.
ولا صلاته بالأطراف السياسية الداخلية تحسنت، بل العكس هو الصحيح، فصلته بالزعيم الدرزي وليد جنبلاط تدهورت، في الشهرين الأخيرين، وعلاقاته بالقوات اللبنانية اقتصرت على زيارة وفد كبير له في بيت الوسط، قبل سنة، أي في ذكرى اغتيال والده الثامنة عشرة، وتواصله مع “حزب الله” معقود على تبادل “الكلمات الطيبة” بينه وبين رئيس مجلس النواب نبيه برّي الذي كان من ضمن قائمة صغيرة زارها، في زيارته قبل سنة الى بيروت. والادلة الصادرة من محيطه اللبناني، لا تظهر أنّ هناك تواصلًا استثنائيًّا بين الحريري وهذه الأطراف، إذ بقيت الأمور عالقة عند نقطة “اشتباك الشكوى”.
وعلى المستوى اللبناني، فقد اشتد عود الطائفية في السنتين الأخيرتين، وتناثرت العلاقات السياسية الداخلية الى مستويات غير مسبوقة، وتعمق مستوى الإهتراء داخل الدولة التي تكاد تتفتت وتتلاشى، وتضاعف النفوذ الإيراني الى مستوى ارتهان جبهة الجنوب كليًّا لمص لحة “وحدة الساحات”.
في الواقع، إنّ مسألة واحدة اختلفت عمّا كانت عليه الأمور قبل سنتين، وتتمثل في أنّ “تيار المستقبل” لم يعد قادرًا على إدارة الأزمات الناشئة عن غياب الحريري، من جهة وعن “تعليق العمل السياسي”، من جهة أخرى.
قبل سنتين لم يكن “تيّار المستقبل” موافقًا على قرار الحريري، ولكنّه حاليًّا أصبح معارضًا لذلك.
“تيّار المستقبل” يريد من الحريري تعليق قرار التعليق حتى يستطيع أن يعود بزخم الى العمل، لأنّه، إذا ما استمرت المعادلات الثابتة منذ سنتين، فهو سوف يتآكل حتى الإنهيار. على يمينه تقف “الجماعة الإسلامية” التي أعلنها “حزب الله” شريكة له في الحرب الحدوديّة، وعلى يساره يقبع معارضو “حزب الله” الأشدّاء، وفي وسطه تتناحر شخصياته على القيادة وعلى المناصب.
إذا أبقى سعد الحريري المعادلات التي اعتمدها قبل سنتين لتعليق عمله السياسي، فهو سوف يكتفي، مرة جديدة، بزيارة لبنان في ذكرى الرابع عشر من شباط. يضخ الأمل في جماهيره، ويرحل مجددًا، كما فعل قبل سنة.
قد يكون الحريري راغبًا بالعودة الى النور بعدما طالت إقامته في الظل، ولكنّه يحتاج ليفعل ذلك إلى دعم قوي. هو لا يكفيه أن تقف المملكة العربية السعودية على الحياد منه ومن الآخرين، لأنّه إذا عاد لا يفعل ذلك لتقطيع الوقت بل لتفعيل تياره وحضوره.
من حق سعد الحريري أن يأمل في أن تغيّر الرياض موقفها منه، طالما أنّ الجميع يحاول حصره بالخلفية السياسية، فهي قد أعادت تموضعها، فسفيرها وليد البخاري يحب زيارة الرئيس نبيه برّي، وشرب القهوة مع السفير الإيراني في بيروت. والمسؤولون في المملكة يعززون أواصر العلاقة المستجدة بإيران ويبقون، على الرغم من التدهور الكبير في البحر الأحمر، تواصلهم مع “حوثيّي” اليمن.
ولا أحد يستطيع أن يجادل رغبة “تيّار المستقبل” في سحب زعيمه من “الإعتكاف”، فما كان يؤخذ عليه سابقًا أصبح سياسة سعودية راهنًا!
ولكن، بيّنت التجارب الكثيرة، أنّ في السياسة كما في الصحراء يمكن أن تحوّل الأمنيات السراب الى واحات!