عندما قصد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لبنان، محاولاً إعادة تشكيل السلطة فيه من خلال دفع مكوّناته المتخاصمة إلى “الوئام والمصالحة والوحدة”، لم يكن يعرف أن الداء اللبناني الخطِر معدٍ، وأنّه هو شخصيّاً غير ملقّح ضدّ هذا الفيروس الفوضوي القاتل.
الآن، أدرك ماكرون ذلك، فما كان يحاول إيجاد حلول له في “بلاد الأرز” انتقل بكل عوارضه وتأثيراته وتداعياته إلى “بلاد الغال”.
تقع مسؤولية الفوضى التي وصلت إليها أحوال المستوى السياسي في فرنسا على عاتق ماكرون شخصيّاً، فبدلاً من أن يستوعب خسارته الانتخابات الأوروبية أمام تحالف اليمين المتطرّف الذي قاده حزب “التجمّع الوطني” بزعامة مارين لوبَّن ورئاسة “ربيبها” الشاب جوردان بارديلا، فجّر البرلمان أو قتله، وفق توصيف رئيس “حزب آفاق” إدوار فيليب، وأمر، في ظل صعود موجة هذا اليمين، إلى تنظيم انتخابات نيابية مبكرة، انتهت الأحد إلى النتائج التي باتت معروفة: الجبهة اليسارية الجديدة في المركز الأول، لكن من دون أكثرية مطلقة تمكّنها من تشكيل الحكومة، والمعسكر الرئاسي في المركز الثاني، واليمين المتطرّف في المركز الثالث، واليمين المعتدل في المركز الرابع.
كان ماكرون يعتقد أنّ رفض ثلثي الفرنسيين اليمين المتطرّف سيدفع بالجميع إلى الالتفاف حوله لقيادة “جبهة جمهورية” في الانتخابات النيابية المبكرة. ظنّه خاب. سارع كل طرف إلى تجميع قواه ليقود هو هذه المواجهة. تنازلت أحزاب اليسار عن خلافاتها، وتجمعت في “جبهة يسارية” تحت عنوان “هرمية المخاطر”. بالنسبة إلى رافاييل غلوكسمان مثلاً، كان التحالف الانتخابي مع جان لوك ميلانشون خطراً مقبولاً بالمقارنة مع أخطار وصول اليمين المتطرّف إلى السلطة. طلبت الأحزاب المؤيّدة لماكرون منه أن يتنحّى جانباً عن قيادة المعركة الانتخابية. جرى تسليم الدفة إلى رئيس الحكومة غبريال أتال. وفي الدورة الثانية، بعد نجاح كبير لليمين المتطرّف في الدورة الانتخابية الأولى، جرى تفاهم انتخابي في البلاد، تمّ بموجبه انسحاب أكثر من 200 مرشح من اليسار واليمين المعتدل والمعسكر الرئاسي، من أجل تمكين “الجبهة الجمهورية” من إلحاق هزيمة باليمين المتطرّف. كانت كل الآمال في تلك اللحظة معلّقة على منع “التجمّع الوطني” والقوى الحليفة له من الحصول على الأكثرية المطلقة في البرلمان.
بهذه النتائج، انتقلت فرنسا، بين ليلة وضحاها، وبفعل الأمر الواقع، من “الجمهورية الخامسة” القائمة على أن يحكم الرئيس وحزبه البلاد، وفي أسوأ الأحوال أن يحكم رئيس من فريق ويتسلّم الحكومة حزب من فريق آخر في “حالة تعايش” اضطرارية، (انتقلت فرنسا) إلى ما كانت عليه في ظل الجمهورية الرابعة، أي أن تحكم القوى التي تتمكن من أن تشكّل في تحالفاتها الأكثرية المطلقة في الجمعية الوطنية.
قوة ماكرون في النتائج التي انتهت إليها الانتخابات التشريعية تكمن في أنّه لا توجد أي قوة قادرة على التفاهم مع قوة أخرى لتشكيل أكثرية مطلقة في الجمعية الوطنية الفرنسية، تفرض عليه أن يتعايش معها. هناك استحالة لأي تفاهم بين الجبهة اليسارية والتجمع الوطني. كل التفاهمات الأخرى، خارج المعسكر الرئاسي، لا يمكنها أن تشكّل أكثرية مطلقة. فالجبهة اليسارية، حتى لو بقيت موحّدة، فهي لن تجد أكثر من 100 نائب يتحالفون معها لتشكيل أكثرية مطلقة تعينها على استلام حكومة منتجة. أمّا نقطة ضعف ماكرون فتكمن في أنّه يعاني من عجز مزدوج: لا يستطيع عقائديّاً عقد تحالف حكومي مع الجبهة الوطنية من جهة، ولا يعينه برنامج الجبهة اليسارية على عقد تفاهم معها من جهة أخرى.
مشكلة التحالف الجمهوري الضخم الذي ألحق هزيمة باليمين المتطرّف أنّه يستحيل أن يتفاهم بعضه مع البعض الآخر. السبب المباشر لذلك هو أن كل طرف يريد تحضير نفسه، من موقعه المتقدّم، للانتخابات الرئاسية المقبلة. الطموحات كثيرة في كل معسكر. في المعسكر الرئاسي، هناك أكثر من مرشح واحد. وجميع هؤلاء المرشحين يرفضون شبك أياديهم بيدي ميلانشون أو لوبَّن، تحت مبرّر مواجهة التطرّفَين. وفي المعسكر اليساري، هناك أيضاً أكثر من مرشح، وكل يرى مصلحته في أن يزايد على الآخر. بالنسبة إلى هؤلاء، ماكرون، وإن لم يكن كلوبن شراً مطلقاً، إلّا أنّه يبقى…شرّاً!
وهذه التعقيدات هي التي تُدخل فرنسا، حتى إشعار آخر، في مرحلة “حكومة العجز”، حيث سيكون هناك تصريف “سرّي” للأعمال. استحقاق الألعاب الأولمبية الذي يبدأ بعد 17 يوماً، يمكنه أن يمرّر قرار إبقاء غبريال أتال في منصبه الحكومي، لكن بعد ذلك، لا بدّ من الحسم!
من يمكن أن يتسلّم الحكومة، إذاً؟
حتى تاريخه لا جواب. يُفترض أن تتقدّم الجبهة اليسارية باسم مرشحها. لن يكون، بطبيعة الحال، جان لوك ميلانشون. لن يرضى به من تحالفوا معه انتخابيّاً. سبق لهم أن أعلنوا ذلك، حتى في حمأة الانتخابات التشريعية. قد يتنازل ميلانشون على مضض عن ترشيح نفسه، لكنه لن يقبل بأي مرشح لا يحمل مشروعه الانتخابي. هذا المشروع يستحيل أن يجمع حوله أكثرية مطلقة في الجمع ية الوطنية. اليمين والوسط يعتبرانه كارثة على الاقتصاد، والمالية، والمجتمع، والجاذبية الاستثمارية، والأعمال. مشروع فيه الكثير من الجمال البياني، لكنّه مكلف في دولة مطلوب منها أن تقتصد كثيراً!
لكن، على ماذا يمكن أن يراهن ماكرون؟
في الواقع، إنه يراهن على انفجار الخلافات ضمن “الجبهة اليسارية” وانشقاق القوى والأحزاب عن ميلانشون وقبولها الوقوف إلى جانب شخصية حيادية من التكنوقراط، يمكنها أن تشكّل حكومة على شاكلتها، من أجل مراعاة الواقع السياسي الفرنسي الراهن.
لكن هذا الرهان يُرجّح ألّا ينجح، لأنّ الجميع يدركون أنّه يعوّم ماكرون، ويغرقهم هم في مواجهة مع الرأي العام، الأمر الذي يُنهي معركتهم الرئاسية قبل أن تبدأ!
في الطريق إلى ابتداع الحل، ستكثر الدعوات إلى ماكرون من أجل الاستقالة. وهو لن يستقيل. سوف يتمدد الضغط عليه من أجل تسليم البلاد إلى “الجبهة اليسارية”، صاحبة الأكثرية النسبية. يستحيل أن يفعل، سوف يتهمه الخائفون من برنامج هذا اليسار بخيانة الأمانة.
ما الحل، إذاً؟
ما دام الفيروس اللبناني قد أصاب فرنسا، فلماذا لا نتخيّل، مثلاً، أن يأتي الأمين العام للأمم المتحدة ويحمل مبادرة ويطالب بعقد طاولة حوار حول بنودها، ويقول لماكرون إن “الجبهة الوطنية” ولو كانت تنتمي إلى اليمين المتطرّف وتحمل أفكاراً من شأنها أن تتسبب بحرب أهلية في البلاد، وتطمح إلى انتزاع السياسة الدفاعية والعلاقات الدولية من الرئاسة، وتتسبب بتخريب العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، وتروّج لفلاديمير بوتين، فهي قد انتخبها الشعب؟
ألم يلقِ ماكرون محاضرات عن قبول “القوى الخطِرة” على اللبنانيّين، حين حدّثهم مثلاً عن “حزب الله” وكان يوماً يتبنّى مرشحه الرئاسي؟ وحين أفهمهم أن الشعب هو من انتخب الطبقة السياسية التي يريد من كانوا ثوّاراً التخلّص منهم “كلهم يعني كلهم”؟