كيف يمكن أن تؤيّد فلسطينيّي قطاع غزة وهزيمة “حركة حماس” في آن؟
هذا السؤال هو جوهر الإشكالية التي يعاني منها كثيرون في هذه الأيّام، إذ يدرج هؤلاء ما أقدمت عليه “حركة حماس” في السابع من تشرين الأوّل الماضي، في خانة الأعمال الإرهابية، ويعتبرون أنّها أعطت إسرائيل حق إصدار حكم الإعدام بحقها والسعي الى تنفيذه، ولكنّهم في الوقت نفسه يعتبرون، وإن بقناعات متفاوتة، أنّ ما قامت به إسرائيل في قطاع غزة ولا تزال، يخرج عن إطار القانون الدولي، بسبب ما يلحقه من خسائر فادحة بالمدنيين الفلسطينيّين الذين لا يمكن تحميلهم، حتى لو كانوا من مؤيّدي “حماس”، تبعة ما قامت به هذه الحركة التي ترفع شعار تحرير الأرض من الإحتلال.
و المنطق الذي تعتمده هذه الشريحة العالمية ترفضه الحكومة الإسرائيلية وحركة حماس في آن، إذ إنّ جذرية الطرفين المتحاربين تحاول أن تفرض على الجميع أن يختاروا إمّا إسرائيل ونهجها الحربي الذي لا بديل عنه أو “حماس” كممثلة لمقاومة الشعب الفلسطيني كخيار لا بدّ منه!
وقد كانت هذه الإشكاليّة في صلب القرار الإجرائي العاجل الذي اتخذته محكمة العدل الدوليّة قبل أقل من شهرين، إذ إنّها، على الرغم من اشتباهها بخرق اسرائيل لاتفاقية الإبادة الجماعية وإلزامها بضرورة حماية الفلسطينيين في قطاع غزة، لم تصدر أمرًا واضحًا لها بوجوب وقف الحرب فورًا.
وعلى الرغم من استمرار سقوط الضحايا، تواصل إسرائيل الإصرار على أنّها تراعي القانون الدولي في حربها، معتمدة في ذلك على أنّها في الواقع لا تشن حربًا كلاسيكيّة بل تطارد تنظيمًا إرهابيًّا بأخذ من السكان دروعًا له!
ورفضت محكمة العدل الدولية أن تتدخل مجددًا في هذا الموضوع لفرض تدابير إضافية ضد إسرائيل، معتبرة أنّ قرارها السابق كافٍ!
وثمة قاسم مشترك في منطقي إسرائيل و”حماس”، إذ إنّ الحكومة العبرية تعتبر وقف الحرب، بالحالة الراهنة هزيمة لها في حين تؤكد “حماس” ذلك بإعلانها والقوى الحليفة لها في “جبهة المقاومة” أنّ اضطرار إسرائيل على وقف الحرب هو انتصار عليها!
وتكمن الإشكالية الجوهرية في مأزقين إسرائيلي وفلسطيني في آن، فإسرائيل، خلافًا لروسيا التي تحارب في أوكرانيا، لا تستطيع أن تُخلي نقاط الحرب من السكان، لأنّهم لا يجدون عمقًا آمنًا ينزحون إليه، إذ إنّ قطاع غزة صغير ويضم أكبر نسبة كثافة سكانية في العالم، فيما الحدود مع إسرائيل مقفلة وكذلك الحدود مع مصر، وبالتالي فهي محكومة بأن تحارب في مناطق يستحيل إخلاؤها بشكل كامل. وتعتبر “حماس” أنّ الوجود المدني هو حماية لها، لأنّها، في حربها مع إسرائيل، تعتمد أسلوب “حرب العصابات” التي تكتسب ميزتها التفاضلية، في ظل الإختلال في ميزان القوى، من تأثيرات الغضب العالمي على “عقارب الساعة”، إذ إنّ كثرة الضحايا من شأنها أن تثير الرأي العام في العالم ليضغط على الحكومات في دول القرار من أجل اتخاذ مواقف من شأنها التعجيل بوقف الحرب، قبل تمكين الطرف الأقوى من تحقيق أهدافه.
كيف يمكن الخروج من هذا المأزق؟
الجواب البسيط يكون على طريقة ما يقدمه بنيامين نتنياهو و”حماس”: إمّا تكون معنا كما نحن أو تكون ضدّنا!
وهذا يعني اصطفافًا جذريًّا، حيث الخلاص بالهزيمة أو الإنتصار، بغض النظر عن الكلفة!
وبالنسبة لمعتمدي هذا الجواب، كل مؤيد لإسرائيل عميل ومجرم، هنا وكل مؤيد ل”حماس” إسلامي وإرهابي، هناك!
أمّا الجواب المعقد فيفترض إيجاد حل واقعي بلا جذريات، من شأنه أن يوقف الحرب وجرائمها وإرهابها، ويسقط منطق الإصطفاف الحاد، فمن لا يعارض “حماس” عليه أن يحمّلها مسؤوليّة إستمرار الحرب على حساب الفلسطينيين، ويفرض عليها حلًّا يأخذ بالإعتبار مصالح القضية الفلسطينية بعيدًا من “عقائد الإنتصار”.
وهذا لا يمكن أن يكون واقعيًّا، إلّا في حالة دفع “حماس” الى إعلان “هزيمة مؤقتة” لمصلحة مكوّن فلسطيني قوي مختلف عنها، لأنّ إسرائيل، حتى لو اتّحد كل العالم ضدها، سوف تستمر في حربها، إذ إنّها لا يمكن أن تسلّم بأن تستولد هزيمة السابع من تشرين الأول الماضي هزيمة جديدة!
إنّ “الهزيمة المؤقتة” لحماس لا تعني هزيمة القضية الفلسطينية بل السماح لها بأن تتنفّس حتى تبقى على قيد الحياة، وهي في الوقت نفسه لا تعني انتصارًا لحكومة إسرائيل لأنّها لن تحول دون تدفيعها ثمن السابع من اكتوبر وإعادة الإعتبار، بعد أن يبرد الجرح، لمعسكر السلام كضامن وحيد لمستقبل آمن!