"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث

لماذا لجأ نصرالله إلى "برج الحمام"؟

رئيس التحرير: فارس خشّان
الخميس، 19 سبتمبر 2024

لم يُراعِ الأمين العام ل”حزب الله” حسن نصرالله، في كلمته التلفزيونية المسجلة حيث قدّم أوّل تعليق له على تفجير خمسة آلاف جهاز “بايجر” و”ووكي توكي”، ضخامة الحدث الأمني غير المسبوق على مستوى ضحاياه وضخامته وتقنياته، فحسب بل تنبّه أيضًا على مواكبة الطيران الحربي الإسرائيلي لها، سواء بغاراته الوهمية فوق الضاحية الجنوبية، أو تلك الفعلية في أرجاء واسعة من الجنوب، أيضًا!

في مناسبات عدة أخرى، وخلال أكثر من 11 شهرًا على فتح الجبهة اللبنانية، وفي مواجهة أحداث أقل خطورة بكثير من ضخامة تحويل الأجهزة اللاسلكية الى “قاتل جماعي”، كانت خطابات نصرالله أكثر حدة وأكثر عدائيّة ومليئة بعشرات التهديدات و”المرجلات”. ومن يقارن بين خطاب نصرالله بعد اغتيال القائد العسكري ل”المقاومة الإسلامية في لبنان” فؤاد شكر وكلمته الأخيرة، بعد تفجيرات الأجهزة، يلمس أنّ الصقر وجد نفسه يتسلل لاجئًا الى “برج الحمام”!

صحيح أنّ نصرالله لم يتخلّ عن تلك “الثوابت” التي يرددها، منذ خطابه الأول الذي جاء بعد مدة طويلة نسبيًّا من فتح الجبهة اللبنانية، إذ يربط كل شيء بوقف العدوان الإسرائيلي على غزة، لكنّ الصحيح أكثر أنّه لا يشبه ذاك الذي كان يرفع الصوت صارخًا: يا هلا ومرحب بالحرب!

في إطلالته اختلط الحزن بالخوف. كان هذا واضحًا، منذ كلمة البداية حتى نقطة النهاية!

معه حق!

معه حق، لأنّ ما حصل، بعد 14 ساعة من قرار الحكومة الإسرائيلية القاضي بإدراج الجبهة الشمالية في القائمة الخاصة بأهداف الحرب ليس مسألة عابرة وبسيطة. لقد استطاعت المخابرات الإسرائيلية أن تكون حيث كان يعتقد الجميع باستحالة وجودها. هذا قد يعود الى التفوق التكنولوجي لإسرائيل، ولكنه قد يكون أيضًا بسبب وجود مافيا فاسدة تكوّنت داخل بنية “حزب الله”. إشارتان صدرتا عن نصرالله في كلمته تؤكدان هذا الخوف “من الذات”: تأكيده، بداية أنّ هناك تحقيقًا داخليَّا قد بدأ وهو يمتد من “المصنع إلى المستهلك”، وتشديده، لاحقًا على أنّ “خطة معاقبة إسرائيل” لن يعرفها إلّا عدد قليل جدًا ومحسوب بعناية، داخل قيادة “حزب الله”.

وثاني إشارات نصرالله قد تكون نتائج “عملية الأربعين” المحبطة للآمال المضخمة التي سبقتها وواكبتها، في البال. هل يؤشر الى أنّ هناك من سرّبها الى إسرائيل؟

مع “حزب الله” عليك أن تخمّن. هذا الحزب لا يقدّم أجوبة. يلقي كلمات فقط. ولكن من يشتبه بتكوّن مافيا فساد ضمن حزبه لا يمكنه أن يستبعد أن تكون أعمالها قد وصلت الى مستوى تسريب الخطط، أيضًا.

ومهما كان عليه واقع الحال، فإنّ ما هو أكيد، أنّه لا يمكن لمن ينتابه شك كبير، حتى بالحلقة القيادية في منظومته العسكرية والأمنية واللوجستية، أن يرفع سقف التحدي الى مستوى “استدعاء الحرب”. الحكمة تقتضي أن يتجنّب الحرب، حتى يتمكن من إعادة تقييم “التوازن” بين قوته وقوة عدوه، بعدما ظهر اختلال هائل فيها، على كل المستويات، ممّا حوّل جميع المقاتلين ومساعديهم المدنيين، إلى أهداف، سواء كانوا في الجبهة أو خلفها أو في مهام أخرى أو يستريحون مع عائلاتهم، فيما هو يبحث “بالسراج والفتيلة” عن جندي معاد لقتله وعن آلية عسكرية لتدميرها.

نصرالله لم يذهب الى حيث تقتضي الحكمة أن يذهب، أي الى “غرفة العناية الفائقة”. وجد الأصلح أن “يعمل نص عاقل ونص مجنون”: يخفض سقفه ويعالج اختلالات منظومته العسكرية في “مستشفيات ميدانية”. الحكمة ستكون هزيمة، وفق قراءته هو للأمور. الإعتماد على “العلاجات الميدانية”، ولو كانت مؤقتة جدًا، هي، من وجهة نظره، صمود. والصمود بعرفه هو …انتصار!

لم يكن لدى نصرالله سردية جديدة ليقدمها. وجد نفسه في دور رافع المعنويات. أعطى لتفجيرات الأجهزة اللاسلكية التي يستعملها “حزبه” أهدافًا ضخمة حتى يتمكن من التبخيس بحصادها. صلّى على عشرات قتلوا ومئات حملوا إعاقات دائمة، ولكنه سرعان ما تجاوزهم الى القادة، كما لو كانوا مجرد أضاحي ضرورية. بالنسبة له، فشل العدو في تحقيق هدف قتل قادة حزب الله. وهذا إنجاز يحسب، برأيه، للحزب. القادة نجوا لأنّ المخابرات الإسرائيلية تجهل أنّهم لا يستعملون الأجهزة الجديدة. بل هم يستمرون في توسل الأجهزة القديمة. هنا تسربت منه ابتسامة عابرة، كأنّه يريد أن يوحي بأنّ القيادة كانت ذكية في أن تبقي اعتمادها على القديم. كما فشل العدو، برأي نصرالله، في إحباط المقاتلين. دليله على ذلك تلك المواقف التي أطلقها الجرحى من مستشفياتهم. وهذا الكلام المتلفز الذي تختلط فيه العاطفة مع الدعاية، ولا يأخذ بالإعتبار عوامل كثيرة لها تأثير آني ومستقبلي وميداني، هو انتصار. وبرأي نصرالله، أيضًا وأيضًا، أنّ إسرائيل أرادت، من عملها غير المسبوق هذا، أن تضرب التلاحم الوطني، فجاء التضامن لينصر “حزب الله” ويخيّب هدف إسرائيل. هنا تجاهل نصرالله، عمدًا، أنّ من تقاليد السياسيين في لبنان، أن يخلطوا دموعهم مع دموع الطرف الذي لهم مصالح معه، علّه يسمح لهم بحصد بعض المنافع. والإنتصار الأكبر، بالنسبة لنصرالله هو في إصراره على البقاء في “حرب المؤازرة”. اعتبر أنّ هدف هذه الهجمة المذهلة هو دفع حزب الله الى فصل جبهة لبنان عن جبهة غزة. الإنتصار على الهدف يكون باستمرار هذه الجبهة على ما هي عليه، منذ الثامن من تشرين الأول. والإنتصار الأخير الذي أدرجه نصرالله في سياق رفع المعنويات، تجسّد في قوله إنّه لن يسمح “للمستوطنين، المستعمرين، المغتصبين” بالعودة أبدًأ الى الشمال. إستدرك نصرالله هذه ال “أبدًا”، فأصبحت الى حين انتهاء العدوان على غزة. وهذا يعني أنّ “حزب الله” سوف يوافق لاحقًا على أفعال الإغتصاب والإستعمار والإستطيان!

في كلمته، أوحى نصرالله أنّ حزبه في ورطة، فهو بعد كل “التضحيات” التي قدمها، وهي ضخمة جدًا، لا يمكنه أن يوقف “حرب المؤازرة”، كما قال، لأنّه إن فعل، ذهبت كل التضحيات سدى!

وأدرك نصرالله أنّ هناك من يقول له كل يوم وكل ساعة بأنّ تضحيات حزب الله، بالأساس، تذهب سدى، فهو لم يقدّم لغزة شيئًا، فإسرائيل لم تربط في أي لحظة من اللحظات أهدافها بغزة بما يحصل على حدودها الشمالية. طالما تعاطت مع الجبهة اللبنانية على أساس أنها جبهة قائمة بذاتها. ولم يتمكن أحد من أن يسجل أن الحكومة الإسرائيلية، ومن أجل استيعاب جبهة الشمال، قدمت تنازلًا ولو صغيرًا في غزة. العكس هو الصحيح: كانت في غزة وتمددت الى الضفة الغربية، وأعلنت لاحقًا الحرب على لبنان.

ولكنّ نصرالله، حتى يقفز فوق هذا المأخذ القوي الذي يؤكد، بما لا يرقى إليه أدنى شك، على هزيمة “حرب المؤازرة” وتسببها بمأساة لحزبه وللبنان من دون أن تنعم بالإيجابيات على غزة، ينتقل دائمًا الى الإستعانة بالمعارضين في إسرائيل للقول إن حربه نفعت. ولو صدق هؤلاء المعارضون في كل ما ذهبوا اليه، إلّا أنّهم حصروا كل كلمة عن “إنجازات” حزب الله بالشمال. لم يقولوا كلمة لها علاقة بتأثيرات ذلك على غزة.

على أيّ حال، وعملًا بثابتة تفيد بأنّ التنظيمات الأصولية العقيدة، مثل “حزب الله” لا تهزها هزيمة ولا يشبعها انتصار، يعمل نصرالله على استيعاب أكبر ضربة تلقاها منذ تأسيسه حتى اليوم، ولذلك خفّض صوته ووازن نبرته و”دبّل عينيه” وأقلع عن ترداد الشعارات الكبرى وأبقى أمنياته بانتقام إستثنائي وصاعق في صدره، حتى يعرف “وين الله حاطو”!

المقال السابق
ماكرون للبنانيين:لا ولاء لأي قضية مهما كانت يستحق إثارة صراع في لبنان
رئيس التحرير: فارس خشّان

رئيس التحرير: فارس خشّان

مقالات ذات صلة

هل يعرف "حزب الله" فعلًا ما ألمّ به؟!

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية