خرجت السفيرة الفرنسيّة في لبنان آن غريو، في الخطاب الذي ألقته في “قصر الصنوبر” بمناسبة “إحياء يوم الإستيلاء على سجن الباستيل” في الرابع عشر من تموز/ يوليو 1789، عن ” السراط الدبوماسي”، وهي تعدّد ما فعلته بلادها، أقلّه منذ انفجار مرفأ بيروت في الرابع من آب/ اغسطس 2020 حتى تاريخه.
ولم يعتد السفراء المعتمدون في الدول على صوغ خطاباتهم بالأسلوب الذي صاغت به غريو التي ستتسلم دائرة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في وزارة الخارجية الفرنسية، في أيلول/ سبتمبر المقبل، خطابها، إذ تخطى حتى إطار التمنين ليصل إلى مستوى التهشيم، على قاعدة “أين كنتم أنتم لو لم نكن نحن”.
لماذا فعلت غريو ذلك؟
من الواضح أنّ السفيرة الفرنسيّة في بيروت ميّزت بين اللبنانيّين والطبقة السياسيّة، بحيث امتدحت الشعب “الحي” وهاجمت القيادات “التدميريّة”.
ولم يظهر أنّ غريو قد ضربت حسابًا لغضب القيادات السياسيّة، ليس لأنّها تستعد لترك لبنان، بل لإدراكها أنّ هؤلاء يخشون على أنفسهم ومكاسبهم من غضب بلادها التي تلعب دورًا أساسيًّا في الإتحاد الأوروبي الذي أوصى برلمانه قبل يومين من خطابها بتفعيل العق وبات ضد معرقلي العملية السياسية في لبنان.
ولم تلتفت السفيرة الفرنسية الى إمكان “لومها” في بلادها، بسبب “جنوحها” عن “الإستقامة الدبلوماسية”، لأنّها، بقدر ما “فشّت خلق” الرئاسة الفرنسيّة ضد المسؤولين عن تفشيل مبادراتها في لبنان، مهّدت الطريق للعودة الوشيكة لجان إيف لودريان الى بيروت، بعد محادثات مباشرة وغير مباشرة أجراها مع القوى الدولية والإقليمية المعنية بالشأن اللبناني وكان آخرها مشاركته في الدوحة، أمس في اجتماع “الخماسية العربية والدولية”، بهدف تحريك ملف انتخابات الرئاسة المعرقل منذ الحادي والثلاثين من تشرين أول/ اكتوبر الأخير، تاريخ انتهاء ولاية الرئيس ميشال عون.
ولكنّ كل ذلك على أهميّته ليس “بيت القصيد”، إذ إنّ ما قالته غريو كان يهدف الى لفت انتباه الرأي العام، من أجل إيصال رسالتها الدفاعيّة عن بلادها التي تعرّضت، في المرحلة الأخيرة، لأكبر حملة لم يشنّها عليها خصومها التقليديون بل أصدقاؤها التاريخيّون.
وقد اتّهمت قوى لبنانيّة فرنسا بأنّها باعت لبنان الى إيران، وفرطت بسيادته على مذبح علاقتها ب”حزب الله” وحالفت الفساد من خلال تبنّي ترشيح رئيس “تيار المردة” سليمان فرنجية، وتخلّت عن مبادئها من أجل حفنة من المصالح، وبأنّها لم تعد تشبه بشيء “الأم الحن ون” بل أصبحت “الخالة الرجوم”!
إنّ ما قالته غريو كان يهدف الى لفت انتباه الرأي العام، من أجل إيصال رسالتها الدفاعيّة عن بلادها التي تعرّضت، في المرحلة الأخيرة، لأكبر حملة لم يشنّها عليها خصومها التقليديون بل أصدقاؤها التاريخيّون
ومن يدقق بخطاب آن غريو يلاحظ أنّ الرد جاء على هذه “المزاعم” بالذات، ولهذا لم تغفل في سياق تعدادها ما فعلته فرنسا، في السنوات الأخيرة، عن لفت الإنتباه الى مسألة خاصة بالمسيحيّين، عندما تحدثت ليس عن دعم مدارسهم فحسب بل عن الدفاع عن كل ما يعتبرونه عزيزًا عليهم في لبنان، أيضًا.
قد يكون خطاب آن غريو جاء قاسيًا في أسلوبه، إذ كان يمكنها تعداد ما فعلته بلادها، من دون هذه الأدبيات التي قاربت التحقير، ولكنها في المضمون لم تجانب الصواب، خصوصًا بعدما اتضح أنّ القريب والبعيد قد تخلّى عن الإهتمام بلبنان كليًّا وتركه مسرحًا خاصًا ب”محور الممانعة”، ولكنّ باريس وضعت كلّ ثقلها من أجل تغيير هذه المعادلة- ولو من دون سلوك ثوري. وليس سرًّا أنّ نجاح فرنسا الأكبر، ولو جاء نسبيًّا، تمثل في إعادة السعودية بعد طول رفض الى المعادلة اللبنانيّة، مع وعد تلقاه ماكرون ومسؤولين لبنانيّين من ولي العهد السعودي الأمير محمّد بن سلمان بأن يعطي لبنان اهتمامًا خاصًا، بمجرّد أن “يريح رأسه” من “المتاعب اليمنيّة”.
وبغض النظر إذا كان المراقب يؤيّد الأسلوب الذي صاغت به غريو خطابها أو لا، فإنّه من المؤكد أن هذا الخطاب كشف أنّ الطبقة السياسيّة في لبنان لم تترك بلادها فريسة للضياع والفشل الجهنّميّين فحسب، بل تخلّت عن جلدها الإنساني و..”تَمْسَحت”، أيضًا!
نشر في “النهار العربي”