لن تتوقف الحرب الإسرائيلية على “حزب الله” في لبنان، قريبًا، فهي، كما الحرب على “حركة حماس” في غزة، بدأت، عندما حطم بنيامين نتنياهو الساعة الرملية التي طالما تحكمت بحروب دولته، ووضع مكانها “عقيدة الإنتصار”.
ولم يكن غريبًا، والحالة هذه، أنّ رئيس الحكومة الإسرائيلية المحمي بقوى اليمين المتطرف، يتعمد التصعيد النوعي في المواجهات، كلّما لاحت في الأفق، عناصر جدية من شأنها أن تؤدي الى وقف الحرب المستمرة منذ السابع من تشرين الأول 2023، فهو لا يتطلع الى تسوية يمكن أن تفيد إسرائيل بل يصر على انتصار كامل لإخضاع العدو!
وليس سرًّا أنّ الفكر السياسي الذي يتأثر به نتنياهو، ومجموعة واسعة من اليمين الإسرائيلي، أسس له المؤرخ الأميركي دانيال بايبس الذي يصر على أنّ إسرائيل والمنطقة لن تعرفا السلام إلا عندما تحقق إسرائيل النصر. وقد عرّف بايبس هذا النصر بأنه يأتي، عندما يستنفد أعداء إسرائيل مخزونهم من الأسلحة العسكرية والأيديولوجية. هو يعتقد بأنّ التنظيمات التي لا ترى نفسها قد انهزمت ليس لديها ما يمكن أن يحفزها على وقف دائم للقتال.
وتأسيسًا على ذلك، تنشد الحكومة الإسرائيلية تحقيق الإنتصار على “حزب الله”، مهما كبرت التضحيات وطال الزمن.
ووضعت إسرائيل، نصب أعينها، قبل أن تقرر إدراج الجبهة الشمالية ضمن أهداف الحرب، القدرات الكبيرة التي يملكها “حزب الله”، فهو بالإضافة الى امتلاكه ترسانة ضخمة من الصواريخ والمسيّرات، أعد الميدان، بشكل ممتاز، لإدارة مواجهات برية قاسية مع الجيش الإسرائيلي، وأجرى ما يكفي من مناورات ليتمكن من المواظبة على إيقاع أكبر قدر ممكن من الخسائر في الجبهة الداخلية. كما أخذت هذه الحكومة في الإعتبار الصراع الدبلوماسي المحتمل مع عدد من الدول المعنية بلبنان، مثل فرنسا، والمواجهة المباشرة مع الأمم المتحدة التي لها قوات عاملة داخل المناطق التي يخطط الجيش الإسرائيلي لاحتلالها والقضاء على كل ما له صلة ب”حزب الله” فيها، متوسلة الأسلوب الذي اعتمدته في مواجهة الأونروا في غزة، لاستعماله عند الضرورة ضد اليونيفيل “التي خانت مهمتها” في لبنان.
ومن يدقق في النهج الإسرائيلي المعتمد، يدرك أنّ الحكومة الإسرائيلية تستدعي “حزب الله” الى هزيمة وليس الى تسوية توفر عودة آمنة لسكان الشمال الى منازلهم. وعليه، فهي تطارد قيادات الحزب أينما حلوا، وتعمل على تدمير بنيانه. وفي العملية البرية، فجيشها لا يستعجل احتلال جزء واسع من جنوب لبنان، بل هو، وبتكتيكات لم يفعل مثلها في حرب تموز 2006، يعمل على “تنظيف” القرى التي يدخلها بأسلوب المسح الشامل، بحيث لا يُبقي أي بنية تحتية يمكن أن يستغلها المقاتلون في مرحلة لاحقة، وبطريقة توحي بأنّ ليس هناك أي استعجال على التوصل الى حل من خلال الدبلوماسية. في الوقت نفسه، أدخلت وزارة الدفاع الإسرائيلية تعديلات على الأدبيات الخاصة بالحرب، فهي لم تعد تهدف الى تأمين العودة الآمنة للسكان الذين تمّ إجلاؤهم من الشمال، بل باتت تطمح إلى تأمين ظروف آمنة “الى الأبد”.
وفي هذا لا تبدو الحكومة الإسرائيلية وحيدة، بل يقف معها البيت الأبيض، حيث هناك رغبة باستئصال القوة العسكرية ل”حزب الله” من كل لبنان، من أجل تمكين “بلاد الأرز” من إعادة تأسيس الدولة القوية فيها. ولذلك، فإنّ واشنطن، وعلى خلاف باريس، لم تعد تضغط من أجل وقف فوري لإطلاق النار، بل هي، وفق أدبيات وزير الدفاع فيها لويد أوستن، تريد من إسرائيل أن تنتقل من المسار العسكري الى المسار الدبلوماسي “في أقرب وقت ممكن”، أي عندما تُنجز مهمتها!
ولكنّ إسرائيل ليست الطرف الوحيد في هذه اللعبة، فهي تواجه قوة لا تخضع هزيمتها للقواعد الكلاسيكية، ف”حزب الله”، في المفاصل الحاسمة، يفعّل “عقيدة الإنتصار” الخاصة به، حيث تبرز المعادلة الخمينية الشهيرة:” نحن ننتصر إن قتَلنا او قُتلنا”.
و”عقيدة الإنتصار” التي ينتهجها “حزب الله” تحتاج إسرائيل الى قدرات هائلة للتفوق عليها، لأنّها لا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن تعترف بالهزيمة، وبالتالي فإنّ الإنتصار على “حزب الله” يفترض توافر القدرة على “إزالته من الوجود”.
وفي حال أصرّت إسرائيل على أن تنتصر، وفق مفهوم دانيال بايبس، فسوف تبرز، من دون شك تعقيدات إقليمية ضخمة، لأنّ لـ”حزب الله” وجوهًا متعددة، ولعلّ أهمها على الإطلاق، وجهه الإيرا ني.
وما كان بالأمس موقع استهجان لدى البعض، عندما ذكرنا أنّ “المقاومة الإسلامية في لبنان” بعد اغتيال قياداتها اللبنانية وعلى رأسهم الأمين العام ل”حزب الله”، تمّ وضعها تحت قيادة مباشرة من “فيلق القدس” الإيراني، أصبح اليوم مسلّمًا به.
وليس من باب المزايدة، الإعتقاد بأنّ “فيلق القدس”، ومن أجل المصلحة الإيرانية، مستعد لأن يقود “حزب الله” الى قتال طويل جدًا، ولو اقتضى ذلك تكبيده واللبنانيين أفدح الخسائر، في مقابل أن لا يعترف بالهزيمة، لما لها من تداعيات على الجمهورية الإسلامية في إيران التي طالما اعتبرت الجبهة اللبنانية “عمقًا استراتيجيًّا” لها، وفق تعبير مرشدها علي خامنئي.
وعليه، فإنّ لبنان في هذه المرحلة يواجه حربًا بين قوتين مصرتين على الإنتصار بمفهومه الجذري. الأولى تملك القوة الهائلة والوقت، والثانية تملك قدرة الإيذاء والإستشهاد.