منذ إعلان فوز دونالد ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية، يُراهن كثيرون على أنّ وضعية لبنان في مواجهة إسرائيل، في مرحلة ما بعد جو بايدن، سوف تكون مختلفة ولمصلحة “جبهة المقاومة”.
الناطقون بهذا التوجّه ينطلقون ممّا يسمونه تعهد ترامب، في رسالة وجهها إلى الجالية اللبنانية في الولايات المتحدة الأميركية، بناء على طلب رفعه لبنانيون في ولاية ميشيغين إلى رجل الأعمال الأميركي- اللبناني مسعد بولس، والد زوج تيفاني، ابنة ترامب، ومن ثم بما أطلقه ترامب نفسه، من مواقف خلال لقائه، مع أفراد من الجالية اللبنانية في “مطعم حسن عباس” في ديربورن.
وبغض النظر عن أنّ الوعود الانتخابية لا تُلزم عادة إلا من يسمعها، وخصوصاً متى كان ترامب هو مطلقها، فإنّ التدقيق بمضمون الرسالة التي وقّع عليها الرئيس الأميركي المنتخب -وهي ما يُمكن التعويل عليه نسبياً- لا تأتي على ذكر الحرب التي تشنها إسرائيل على “حزب الله” في لبنان، ولا على وجوب وقفها فوراً، بل هي تذهب إلى حيث لا يُمكن لـ”جبهة المقاومة”، نظرياً الذهاب إليه، أي “العيش بسلام مع جيران لبنان”.
في هذه الرسالة قال ترامب: “أريد أن أرى الشرق الأوسط يعود إلى سلام حقيقي، سلام دائم. نريد أن ننجز ذلك بالشكل الصحيح، بحيث لا يتكرر تدمير لبنان، كل خمس أو عشر سنوات. أصدقاؤكم وعائلاتكم في لبنان يستحقّون أن يعيشوا في السلام والازدهار والانسجام مع جيرانهم، الأمر الذي لا يُمكن أن يحدث إلا من خلال الاستقرار والسلام في الشرق الأوسط”.
لا تحتاج رسالة ترامب هذه إلى أي تفسير، فالرجل الذي تباهى بأنّه فتح، خلال ولايته الأولى، طريق السلام من خلال إطلاق مسار “إتفاقيات إبراهام”، لا يرى حلاً لوقف دوامة توالد الصراعات والحروب، إلا بسلام قائم على “المصالح المتبادلة”.
وليس سرّاً أنّ “جبهة المقاومة” بقيادة الجمهورية الإسلامية في إيران، ومنذ الساعات الأولى على هجوم “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 لم تجد في “طوفان الأقصى” إلا أنّه انقلاب كامل على “مسار التطبيع” بين العرب وإسرائيل، أي على “اتفاقيات إبراهام” التي كان دونالد ترامب شخصياً وراء إطلاق مساراتها وتبناها جو بايدن وسار في هديها!
وبالعودة إلى رسالة الرئيس الأميركي المنتخب إلى الجالية اللبنانية في الولايات المتحدة، والمعروفة بـ”وثيقة مطعم عباس”، يتضح أنّ وعد ترامب هو، بالمحصلة، الإعراب عن نيته في ضم لبنان إلى نهج “التطبيع مع إسرائيل”، حتى يتمكن اللبنانيون من “العيش بانسجام وسلام مع جيرانهم”.
للمفارقة، إنّ الترويج لإيجابيات “ترامب- 2” على “جبهة المقاومة” من خلال هذه الوثيقة الموقعة منه، لا يأخذ في الاعتبار أنّ مضمونها يتلاقى تحديداً مع الأدبيات التي تستعملها الحكومة الإسرائيلية للإعراب عن طموحاتها في لبنان.
وفي واقع الحال، لو شاء بنيامين نتنياهو نفسه أن يتوجه بتعهد للبنانيين، سواء كانوا مقيمين أو منتشرين، لما زاد حرفاً واحداً على الرسالة التي وقعها دونالد ترامب.
وبديهي أنّه لا يُمكن أن يفي ترامب بتعهداته المكتوبة، من دون أن يُنهي النفوذ الإيراني في لبنان المتوافر من خلال “حزب الله”. وهذا يعني أنّه سيقف خلف الحكومة الإسرائيلية حتى تحقق أهداف حربها على الحزب، سواء من خلال الوساطة الديبلوماسية أو من خلال الانتقال إلى مرحلة أوسع من العملية البرية المستمرة.
وانطلاقاً من تعهدات ترامب هذه، تحرّكت الديبلوماسية الإسرائيلية في كل اتجاه، حاملة مبادئها لحل دبلوماسي يُنهي حربها على “حزب الله” في لبنان. مبادئ تقوم على سحب “حزب الله” بصورة نهائية وحاسمة ودائمة إلى ما وراء الضفة الشمالية لنهر الليطاني، وإيجاد آلية موثوق بها من شأنها أن تضمن عدم عودة هذا الحزب إلى المناطق التي يتم إبعاده عنها، بحيث تكون هناك مراقبة لصيقة على دور الجيش اللبناني المدعوم من اليونيفيل، وتوفير مناخ لبناني- إقليمي- دولي يحول دون إعادة تسليح “حزب الله”، بحيث لا يتمكن من إعادة ملء مخازنه بالصواريخ وبالمسيّرات.
بطبيعة الحال، لن تقبل إيران التي تدير المفاوضات الخاصة بـ”حزب الله”، بحل مماثل، ولذلك، وفي حال تمّ تفعيل ما تتضمنه رسالة ترامب إلى الجالية اللبنانية في الولايات المتحدة الأميركية، فإنّ الغطاء سوف يتوافر لإسرائيل حتى تواصل حربها على “حزب الله” لتحقق في الميدان ما لن تقبل به إيران على طاولة التفاوض!