محرجة فعلاً، بل محيرة، حالة اللاجئين السوريين الذين شرّدهم النظام الأسدي المنقرض طوال السنوات ال14 الماضية، في شتى انحاء الأرض، حتى قاربت أعدادهم نصف سكان سوريا، أي ما يربو على 12 مليون لاجئ، وصلت مجموعات منهم الى بلدان نائية من الكوكب، مثل نيوزيلندا في اقصى الشرق الى الارجنتين في اقصى الغرب. هؤلاء لم يعد منهم الى سوريا منذ فرار الرئيس بشار الأسد وعائلته ومريديه المقربين في الثامن من كانون الأول الماضي، سوى ما نسبته واحد في المئة، في أعلى تقدير، ولا ينوي سوى خمسة في المئة منهم العودة في مراحل لاحقة، بعد ان يتبينوا الأحوال في الوطن، وبعد أن يتدبروا الأمور الشخصية والعائلية، المعيشية والتعليمية وغيرها.
هذه الأرقام والنسب تتدنى كثيرا عندما تدرج فيها أعداد اللاجئين السوريين في تركيا بشكل خاص، التي تصنف باعتبارها الملاذ الأكبر والأهم للجوء السوري، حيث تستضيف على أراضيها ما يقرب من مليونين و900 الف لاجئ سوري، لم يعد منهم حتى اليوم أكثر من خمسين ألفاً، منذ أن فتح الاتراك العدّاد الرسمي للعودة في أعقاب إنهيار نظام الأسد، آملين أن يحصدوا بسرعة ثمار الانقلاب الذي رعوا حصوله في دمشق، ونتاج الحملة العنصرية الضارية التي شنتها معظم الأحزاب التركية وأحزابه على النازحين السوريين، والتي لم يكن مثيل في بقية دول العالم. أما لبنان، وهو بلد اللجوء السوري الثاني، الذي إستضاف ما يزيد على مليون ونصف مليون نازح سوري، أكثر من 90 بالمئة منهم يتوزعون بين نازحين اقتصاديين وبين موالين للنظام المنقرض، فقد كان ولا يزال حالة استثنائية خاصة، حيث عاد منهم ما يقرب من 450 ألفاً، قبل ان تستعيد الحدود البرية بين البلدين أحوالها الفوضوية، بحيث يستحيل حساب العائدين والزوار والسائحين..
في حوارات قديمة مع زملاء أوربيين، كانت الحجة الدائمة أن خيار أوروبا الواقعي والمنطقي هو الإسهام الجدي في إسقاط نظام بشار الأسد، لأن من شأن ذلك أن يحل جانباً مهماً من أزمة اللجوء السوري، إذ سيكون أغلب النازحين السوريين الذين رموا بأنفسهم في البحر المتوسط، وغرق منهم الآلاف، أو الذين تسللوا في الغابات والبراري من أجل الوصول الى بر الأمان الأوروبي، مستعدين للعودة الى بلادهم، وحتى بالطرق اليائسة نفسها، بحيث يمكن ان تشهد الحدود البرية والبحرية زحفاً شعبياً هائلاً، الى الحضن السوري الدافىء، للمشاركة في الانتقام واستعادة الأملاك والحقوق، والانطلاق في ورشة إعادة الاعمار، التي لا تحتاج أكثر من الإرادة السورية.
لكن الاشقاء السوريين نقضوا في الأسابيع القليلة الماضية تلك الحجة القديمة، التي تبدو اليوم انها كانت ساذجة، وأثاروا الارتباك حتى في العواصم الأوروبية التي كررت ورفعت سقف عروضها المالية للراغبين منهم بالعودة الى بلادهم، ولم يقدموا في المطارات والمرافىء ومحطات القطار الأوروبية، مشاهد من ذلك الزحف المرتجى، الذي كان يتوقع أن ينافس مشهد زحف نصف مليون انسان فلسطيني الى بلداتهم وبيوتهم المدمرة في شمال غزة، أو أن يماثل على الأقل مشهد العائدين اللبنانيين الى قراهم الحدودية الجنوبية تحت النيران الإسرائيلية. أفسح النازحون السوريون المجال للقول انهم كانوا بمثابة رحالة أتيحت لهم فرصة القيام بتلك الرحلة الطويلة، والمثيرة، والتي تحتمل تأجيل التفكير بالعودة..وهم لذلك نجحوا أكثر من سواهم، وإندمجوا أسرع من سواهم، في بلدان “الترحال” الجديدة، التي باتوا يرفضون مغادرتها.
ولعل في تركيا حيرة أيضاً إزاء امتناع النازحين السوريين عن التفكير أو التخطيط للعودة الزاحفة الى الوطن الأم، بعدما سقطت نصف أسباب النزوح، وبقي النصف الآخر الذي يتطلب ان تتحول سوريا الى خلية نحل، تنبش القبور الجماعية، وتفتح المحاكم الاستثنائية، وتشكل المجالس التمثيلية والتنفيذية الانتقالية، وتؤسس الأحزاب والجمعيات والهيئات السورية، التي يفترض أن ترث الحكام الاسلاميين الجدد..ولو بعد حين، يتراوح بين ثلاث أو أربع سنوات على أقل تقدير. لكن الفرصة متاحة الآن، لكنها قد تضيع، إذا ما طال الاغتراب السوري وتحول الى غربة أبدية.