يُحاول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين استغلال حرب إسرائيل ضد حماس كفرصة لتصعيد ما وصفها بأنها معركة وجودية مع الغرب من أجل فرض نظام عالمي جديد ينهي الهيمنة الأميركية لصالح نظام متعدد الأطراف يعتقد أنه يتشكل بالفعل، وفق ما يرى خبراء.
وفي نفس الوقت خففت الحرب في غزة والتوترات المرافقة لها من استهداف الميليشيات الموالية لإيران لقواعد ومصالح الولايات المتحدة في المنطقة، الضغوط الغربية على روسيا التي تحرز تقدما أفضل في حربها على أوكرانيا.
وألقت واشنطن بثقلها في دعم إسرائيل في حربها على حماس بينما كان معظم الدعم موجه لأوكرانيا في مواجهة القوات الروسية، وسط تذمر أميركي من استنزاف مالي حتى أن العديد من النواب في الكونغرس الأميركي طالبوا الرئيس جو بايدن للضغط على كييف لقبول التفاوض مع موسكو من أجل إنهاء الحرب.
ويحقق الرئيس الروسي في الوقت الراهن مكاسب سياسية واقتصادية ونقاط في المواجهة مع الغرب العالق في دعم غير محدود لإسرائيل.
وانتظر بوتين ثلاثة أيام قبل أن يصدر عنه أي تعليق على هجوم حركة حماس على إسرائيل الذي وصف بالمذبحة ووقع يوم عيد ميلاد الرئيس الروسي الحادي والسبعين.
وعندما صدر عنه تعليق، ألقى بالمسؤولية في ما حدث على الولايات المتحدة وليس على حماس. وقال وقتها لرئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني “أعتقد أن كثيرين سيتفقون معي على أن هذا مثال واضح على السياسة الفاشلة التي تنتهجها الولايات المتحدة في الشرق الأوسط والتي حاولت احتكار عملية التسوية”.
ومرت ستة أيام أخرى قبل أن يتحدث بوتين مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ليقدم تعازيه في مقتل حوالي 1200 إسرائيلي. وبعد ذلك بعشرة أيام، قالت روسيا إن وفدا من حماس موجود في موسكو لإجراء محادثات.
وكتب سيرغي ماركوف المستشار السابق في الكرملين في مدونته موضحا موقف بوتين وحاجته ليميز نفسه على الساحة “تدرك روسيا أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي يدعمان إسرائيل بشكل كامل، لكنهما يجسدان الشر الآن ولا يمكن أن يكونا على حق بأي شكل من الأشكال”.
وأضاف “لذلك، لن تكون روسيا في نفس المعسكر مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. الحليف الرئيسي لإسرائيل هو الولايات المتحدة، العدو الرئيسي لروسيا في الوقت الحالي. وحليفة حماس هي إيران، حليفة روسيا”.
وتتمتع روسيا بعلاقات تزداد قربا مع إيران التي تدعم حماس وتتهمها الولايات المتحدة بتزويد روسيا بطائرات مسيرة لاستخدامها في حربها بأوكرانيا التي تخوض حرب استنزاف طاحنة مع روسيا.
وعبرت هانا نوت خبيرة السياسة الخارجية الروسية المقيمة في برلين لمركز كارنيجي روسيا وأوراسيا عن اعتقادها بأن موسكو تخلت عن موقفها السابق الأكثر توازنا بشأن الشرق الأوسط وتبنت “موقفا صريحا مؤيدا للفلسطينيين”.
وقالت “تدرك روسيا جيدا أن بقيامها بكل هذا فهي تنحاز إلى جهات ودوائر في جميع أنحاء الشرق الأوسط وحتى خارجه في جنوب العالم في وجهات نظرهم المتعلقة بالمسألة الفلسطينية وحيث تستمر القضية الفلسطينية حاضرة بقوة”.
وهذه الجهات والدوائر هي تحديدا التي يسعى بوتين إلى كسبها في سعيه نحو تشكيل نظام عالمي جديد من شأنه أن يضعف نفوذ الولايات المتحدة، مضيفة “أهم طريقة ستستفيد منها روسيا في أزمة غزة هي تسجيل نقاط في محكمة الرأي العام العالمي”.
وقارن ساسة روس بين ما يقولون إنه التفويض المطلق الذي منحته واشنطن لإسرائيل لقصف قطاع غزة وبين رد واشنطن العقابي على الحرب التي تخوضها روسيا في أوكرانيا وتقول إنها لا تستهدف المدنيين عمدا رغم مقتل آلاف المدنيين.
وقال السيناتور أليكسي بوشكوف إن الغرب وقع في فخ من صنعه حين كشف عن المعايير المزدوجة التي يتعامل بها مع الدول المختلفة بناء على تفضيلات سياسية مبنية على مصالح ذاتية.
وكتب بوشكوف على تطبيق تيليغرام “دعم الولايات المتحدة والغرب المطلق لتصرفات إسرائيل وجه ضربة قوية للسياسة الخارجية الغربية في نظر العالم العربي وجنوب العالم بأكمله”.
وذكر ماركوف مستشار الكرملين أن روسيا تعتبر أزمة غزة فرصة لتعزز نفوذها في الشرق الأوسط من خلال تصوير نفسها كصانع سلام محتمل له علاقات مع جميع الأطراف.
وعرضت موسكو استضافة اجتماع إقليمي لوزراء الخارجية. وقال بوتين إن روسيا في وضع جيد يمكنها من المساعدة، مضيفا لقناة تلفزيونية عربية في أكتوبر “لدينا علاقات مستقرة جدا وعملية مع إسرائيل ولدينا علاقات ودية مع فلسطين منذ عقود وأصدقاؤنا يعرفون ذلك. ويمكن لروسيا، من وجهة نظري، أن تقدم أيضا مساهمتها الخاصة في عملية التسوية”.
وقال ماركوف إن هناك فوائد اقتصادية محتملة أيضا بالإضافة إلى ميزة سحب الغرب الموارد المالية والعسكرية من أوكرانيا، مضيفا “روسيا ستستفيد من زيادة أسعار النفط التي ستنجم عن هذه الحرب… وستستفيد روسيا من أي صراع ستخصص له الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي موارد لأن ذلك يقلل من الموارد المخصصة للنظام المناهض لروسيا في أوكرانيا”.
وعبر أليكس جابويف مدير مركز كارنيجي روسيا وأوراسيا عن اعتقاده بأن موسكو عدلت سياستها في الشرق الأوسط بسبب الحرب في أوكرانيا.
وقال “تفسيري لذلك هو أن الحرب أصبحت المبدأ المنظم للسياسة الخارجية الروسية وبسبب العلاقات مع إيران، التي تأتي بمسألة العتاد العسكري إلى المعادلة. فعلى سبيل المثال، يحظى الجهد الحربي الروسي المحوري بأهمية أكبر من العلاقات مع إسرائيل”.
وتضررت علاقات روسيا مع إسرائيل التي كانت في العادة وثيقة وعملية. وأثار استقبال موسكو لوفد من حماس بعد أقل من أسبوعين من هجوم السابع من أكتوبر/تشرين الأول غضب إسرائيل مما دفعها إلى استدعاء السفير الروسي أناتولي فيكتوروف لأنه بعث “برسالة تضفي الشرعية على الإرهاب”.
وكان الاستياء متبادلا، فاستدعت وزارة الخارجية الروسية السفير الإسرائيلي ألكسندر بن تسفي مرتين على الأقل لإجراء محادثات، وتراشق مبعوثا البلدين لدى الأمم المتحدة في حرب كلامية بعد أن شكك ممثل موسكو في نطاق تعريف حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها.
وقال ميخائيل بوغدانوف أحد نواب وزير الخارجية الروسي إن إسرائيل توقفت عن تحذير موسكو بشكل منتظم من ضربات جوية تنفذها داخل سوريا حليفة روسيا.
وعندما عبر وزير إسرائيلي وهو موقوف عن العمل منذ ذلك الحين، عن قبوله لفكرة توجيه إسرائيل لضربة نووية لقطاع غزة، قالت روسيا إن التصريحات تثير “عددا كبيرا من الأسئلة” وتساءلت عما إذا كانت تشكل اعترافا رسميا من إسرائيل بأنها تمتل ك أسلحة نووية.
وقال أمير ويتمان عضو حزب الليكود الذي يتزعمه نتنياهو إن إسرائيل ستعاقب روسيا في يوم من الأيام على موقفها. وذكر في مقابلة مع قناة آر.تي الروسية في أكتوبر/تشرين الأول “سننهي هذه الحرب مع حماس… وبعد ذلك، ستدفع روسيا الثمن”ن مضيفا “روسيا تدعم أعداء إسرائيل. وبعد ذلك لن ننسى ما تفعلونه. سنأتي وسنتأكد أن أوكرانيا ستنتصر”.
وتأتي هذه التطورات بينما عدلت روسيا بوصلتها صوب تعزيز نفوذها في أكثر من منطقة كانت تقليديا مناطق نفوذ للولايات المتحدة وحلفائها الغربيين.
وقد فتح تدخلها في الحرب في العام 2015 دعما للرئيس السوري بشار الأسد، الباب على مصراعيه للتمدد في الشرق الأوسط في مواجهة النفوذ الأميركي. وعززت التوترات الجيوسياسية في المنطقة قدرتها على فتح المزيد من المنافذ لإيجاد موطئ قادم ثابت لها بينما تبحث عن دور جديد في خضم أزمة غزة.
بتصرف عن يديعوت أحرونوت