ليس تاريخًا تقليديًّا ما قدمته المؤرخة الأميركية إليزابيث تومبسون عن الأحداث التي حصلت في سوريا بعد سحق الغرب للإمبراطورية العثمانية العام ١٩١٨ في كتابها “كيف سرق الغرب الديمقراطية من العرب؟”، بل الكتاب عبارة عن رواية تدور أحداثها في لحظة محورية في تاريخ العالم الحديث، عندما حاول العرب تأسيس مملكة دستورية وديمقراطية حديثة في سوريا بعدما تمّ طرد الأتراك الجدد عنها.
أبطال الرواية الرئيسون هم الملك فيصل ابن الشريف حسين الذي قاد الثورة العربية ضد الحكم التركي العثماني بين العامين ١٩١٦ و ١٩١٨، وقد انضم إلى جمعية العربية الفتاة القومية السرّية، ودافع عن استقلال سوريا. والشيخ رشيد رضا الإسلامي، المؤيد للثورة الدستورية في عام ١٩٠٨ باعتبارها ضربة ضد الاستبدادية العثمانية، وقد رافق الملك فيصل في مواجهته للمخطط الفرنسي لاحتلال سوريا، وأشرف على صياغة دستور للمملكة العربية قبل اطاحتها من قِبل الفرنسيين، وهو دستور أرسى أول ديمقراطية عربية تضمن حقوقاً متساوية لجميع المواطنين، بمن فيهم غير المسلمين. وكان الشيخ رضا، ابن القلمون اللبنانية، قد لعب دور محوري في هذه الفترة لتعزيز الإسلام الليبرالي ومُقرّباً لوجهات النظر بين الإسلاميين والعلمانيين. والرئيس الأميركي ولسون الذي طرح نقاطه ال ١٤ أهداف الحرب لأجل التخلص من نظام الديبلوماسية السرية والإمبريالية، ووعد بنظام عالمي ديمقراطي جديد يقوم على القانون.
تأخذنا المؤرخة إليزابيث في رحلة بين الشام وأوروبا، حيث حاول الملك فيصل، متسلحاً ببنود الرئيس ولسون ال١٤، أن يفرض احترام الفرنسيين والبريطانيين ليكسب استقلالا ل”مملكة عربية” كجائزة لمشاركة العرب مع الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، شأنهم شأن الشعوب الأوروبية التي حازت على الاستقلال. لكن الأطماع الفرنسية والبريطانية وقفت في وجه طموحات الملك فيصل والرئيس ولسون، واستطاعوا أن يفرضوا مخططهم الاستعماري والإطاحة بالحكم في دمشق.
حاول الملك فيصل بعد أن وضعت الحرب العالمية الاولى أوزارها أن يتسلح ب”دستور ديمقراطي” يحاكي الشعارات التقدمية التي رفعها الحلفاء، باعتبار أنه الخلاص للعرب وطوق النجاة أمام طموحات فرنسا وبريطانيا الاستعمارية. ورغم محاولات الرئيس ولسون صد تلك الطموحات، إلا أن إصابته بالجلطة الدماغية والانتخابات النصفية للكونغرس التي خسرها حزبه، جعلت الولايات المتحدة تنكفئ وتنفض يدها عن دورها في سوريا. وأمام الانقسامات الداخلية في كل من فرنسا وبريطانيا، إلا أن الأجنحة واللوبيات الداعية للإمبريالية التوسعية استطاعت فرض أجندتها، لتشن قوات فرنسا غزواً لسوريا وتطيح بمملكة فيصل بعد سنة ونصف من نشأتها.
الكتاب يتحدث بالتفصيل عن الرحلة الشاقة للملك فيصل، ووقوعه بين مطرقتين: مطرقة القوميين العرب في سوريا الرافضين للغة الحوار مع فرنسا، ومطرقة فرنسا واتفاقه مع كليمنصو بالموافقة على مُلكه شرط أن يأخذ اعتراف المؤتمر السوري بحق انتداب فرنسا وسيادتها على سوريا. إلا أن فرنسا، عبر المندوب السامي الجنرال غورو، كانت تفرض شروطاً تعجيزية إضافية لإبقاء فيصل على ملكه في دمشق. ورغم موافقة الأخير، إلا أن الآلة العسكرية الفرنسية الفتاكة، توجهت إلى ميسلون ثم دمشق لإسقاطه وتدمير التحالف التاريخي الليبرالي-الإسلامي فيه ومحو كل ما يُذكّر العرب بالدستور الذي صاغه المؤتمر السوري.
ما توصلت إليه المؤرخة إليزابيث أن وسط هذا التشوش والانكسار وتبعات سقوط فيصل والمؤتمر السوري والدستور الديمقراطي الذي جمع القومية واللليبرالية والتيار المحافظ، على يد القوى الاستعمارية والتي من المفترض أنها حاربت لأجل الدفاع عن الشعوب وحق تقرير مصيرهم، نبتت بذور الدكتاتورية والإسلاموية المعادية لليبرالية في تلك المنطقة. ففي عام ١٩٢٩، كان فيصل يستلهم أنظمة مصطفى كمال أتاتورك في تركيا ورضا شاه بهلوي في إيران وحتى بنيتو موسوليني في إيطاليا، ليصنع ملكه في العراق. أما الشيخ رشيد رضا، المشرف على كتابة دستور ١٩٢٠، لم يعد يؤمن بالانسجام بين الإسلام والمدنيات الأوروبية، كما كان قبل إسقاط فيصل.