"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث

خوان خوسيه غوميز / بيكاسو والجغرافيا السياسية للوحة غرنيكا

الرصد
الجمعة، 24 مارس 2023

هذه اللوحة التشكيلية لبيكاسو (1937)التي رسمها احتجاجا على القصف الجوي الألماني لمدينة غرنيكا، بكل أبعادها الاشتراكية والديمقراطية والإسبانية والعالمية، تظهر قيمتها الفنية كلما سمح للبشر بأن يتعرضوا للظلم والطغيان والوحشية. كتب المفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي في القرن الماضي، كثيرا في إنتاج المعتقدات الجماهيرية، وأن السياسي لن يكون راضيا عن الفنان أبدا. وأشار إلى أن هذا لا يعني أن الفن لم يكن ثمرة عصره أو يفتقر إلى الفعالية التاريخية، بل إنه يمارس في مجاله المحدد ويناضل لا من خلال منظومته فقط، وأنه ليس فنا، بل سياسة من خلال الصور. تقدم التكعيبية مثالا واضحا على هذا التمييز الأرستقراطي: تحلل شخصية ما، وتجاور وجهات نظرها المختلفة، والتشكيك في وحدتها «الطبيعية» وتقديم النموذج على أنه لغز يدفعنا إلى التفكير في كيفية إعادة تشكيله من جديد. وبهذه الطريقة، يجعلنا ندرك الطابع المبني للواقع، وبالتالي، اليقين الذي نبني عليه معرفتنا وتصرفاتنا. من وجهة النظر هذه، فإن التكعيبية بعيدة كل البعد عن أن تكون فنا مجردا وعقلانيا. وأن البرودة العقلانية التي تحكمها هي إنسانية وكذلك عميقة في إنسانيتها، ناشئة عن الإرادة لمواجهة عالم مجزأ ومتغير دون اللجوء إلى العقائد أو المشاعر.

المدرسة التكعيبية

تزامنت نهاية الحرب العالمية الأولى، مع تكريس التكعيبية للنقاد والجمهور، لكن في ذلك الوقت، كان المعماري السويسري /الفرنسي لو كوربوزييه والكاتب والرسام التكعيبي الفرنسي أميديه أوزنفان، يعلنان بالفعل أن الوقت يتطلب تحويل مشاكل الفن إلى حلول. كان من الضروري التدخل في العالم، والتغلب على الممارسة التكعيبية الهائلة لهدم اليقين، واستعادة النظام والقياس والتناسب بين هذه الأشكال المتحللة؛ وخلق رسومات تشكيلية متجاوبة توفر حقائق جماعية تستند إليها الحياة الوطنية. وهذا ما ذهبت إليه لوحة غرنيكا بسبب أسلوبها التكعيبي الحديث، الذي نجح في تسليط الضوء على موضوعها المؤلم. على الرغم من أن مثل هذه الاستعادة للكلاسيكية، المرتبطة بالمجهود الحربي وإعادة إعمار فرنسا، قد عانى منها بيكاسو ببعض المسافة كأجنبي، ففي الخمسينيات من عمره، كان بيكاسو يعيش في فرنسا بدلا من موطن ولادته إسبانيا، إلا أنها تغلغلت في برنامجه لإعادة تصميم اللغات العامة والأساطير، من البحر الأبيض المتوسط من المينوتور(مصارع الثيران) إلى اللاتيني. لكن الآن الحرب الأهلية تندلع في إسبانيا والوضع يأخذ جانبا مختلفا تماما. بيكاسو، العقلاني والاستبطاني، هزته الأحداث بوحشية. يثور على هذه الأوضاع ويرسمها بصور مشوهة لدرجة الاشمئزاز، كما في غرافيك أحلام وأكاذيب فرانكو (1937). ومع ذلك، مع لوحة غرنيكا، تبدأ ثورة الغضب في التنقية عن طريق الرسم وتحويله إلى الوضوح التام. تختفي الرموز السياسية من الرسومات التحضيرية – المطرقة والمنجل، والتكوين حول قبضة مرتفعة – وتكتسب اللوحة هيكلها النهائي. في النهاية، لا تزال هناك صورة تتحدى مشكلة أخلاقية لا مفر منها. وهو يتطلب ردا من أولئك الذين اخترقتهم آلام هذا العالم المتفجر؛ لكنها لا تفرض مهمة سياسية ملموسة.

«مع غيرنيكا، يبدأ غضب بيكاسو في التنقية عن طريق الرسم وتحويله إلى وضوح». على وجه التحديد، أدى هذا الافتقار إلى الملموس إلى جعل غرنيكا عملا إشكاليا حتى بالنسبة لأركانها. تم تكليفه بإنجازها من قبل الحكومة الإسبانية في المعرض العالمي لعام 1937 في باريس لزيادة الوعي بالانتفاضة ضد فرانكو. ومع ذلك، كان من الصعب «قراءة» هذه المجموعة من الشخصيات الغامضة في اللوحة وكان هناك العديد من التحفظات حول مساهمتها في المجهود الحربي، حتى لو تمكنت من التعريف بالمجهود الجبار للقوات الجمهورية الإسبانية في الترويج للفنون في أوروبا وعالميا.

اللوحة القاتمة

في حين كانت الحرب تنتهي في إسبانيا بدأت أطوارها في العالم، سافرت اللوحة في جميع أنحاء أوروبا والولايات المتحدة في مناخ من التنديد، ودعم قضية الجمهوريين الإسبان حتى عام 1942، وتم إيداعها في متحف الفن المعاصر في نيويورك. في غضون ذلك، بقي بيكاسو في الاستوديو الخاص به في باريس المحتلة، محميا بشهرته وبعض المعجبين المؤثرين، مثل أرنو بريكر، النحات البارز للرايخ. هذه سنوات من التفكير والرقابة الذاتية والرسم الكئيب. على الرغم من أنه بعد الهدنة مباشرة، انضم بيكاسو إلى الحزب الشيوعي الفرنسي وعمل كمفكر حر ضمن صفوفه.

في بعدها المزدوج الكبير المعاصر كعمل معاصر وتشكيل تاريخي، تصبح لوحة غرنيكا أيضا رمزا للعصر ولإلهام الفن المشتبك مع قضايا عصره والمناضل من فترة ما بعد الحرب، عندما كان الشيوعيون يتمتعون باحترام هائل بين نخبة المثقفين البارزين في مقاومة الفاشية. كان الرسام أندريه فوجيرون والرسام إدوارد بجنون في فرنسا، والرسام ريناتو غوتوسو‏ في إيطاليا، يعملان بنشاط لحشد العدد المتزايد من الرسامين ما بعد التكعيبية، حول أحزابهم. يتبعهم بيكاسو بالعديد من عينات الرسم السياسي: لوحة صندوق العظام، لوحة النصب التذكاري للإسبان الذين قتلتهم فرنسا، لوحة مذبحة في كوريا، أو لوحة حمائم السلام لمختلف منظمات اليسار الدولي. كما ينظر إليه من المدافعين عن الثقافة المعاصرة، الذي قدم للشيوعيين الغربيين العديد من المكاسب السياسية. ومع ذلك، نظر الجهاز الثقافي للاتحاد السوفييتي إلى هذا الارتباط الفني بريبة وشك شديد. عندما انغمس العالم في الحرب الباردة ، بدا له الفنان بيكاسو بانتمائه لليسار الاوربي ، بالاضافة الى طريقة الرسم النخبوية والمناهضة للبروليتاريا بلوحاته ، كسياسة فنية وثقافية اوربية منشقة عن نهج الفنون الشيوعية بالاتحاد السوفياتي. وعلى حد تعبير غيراسيموف، «سممت أجواء الهواء النقي للفن السوفييتي» ما تسبب في الشقوق الأولى في الواقعية الاشتراكية، وتراجع صريح في هذا الاتجاه منذ الحرب حتى وفاة ستالين في عام 1953.

في ذلك العام تم عرضت «غرنيكا» في ميلانو بناء على طلب من الحزب الشيوعي، جنبا إلى جنب مع لوحة مذبحة في كوريا والحرب والسلام والمجموعة السوفييتية المتميزة للفترتين الزرقاء والوردية من حياة بيكاسو. المعرض خلف وراءه ردود للجمهوريين الاسبان لتبيان الدور الاجتماعي والمعاصر والاوربي للفن في خدمة قضيتهم وكان كذلك بمثابة بيان ضد الحرب الباردة .. ومع ذلك، وعلى الرغم من حصوله على جائزة لينين في عام 1950، لم يعرض بيكاسو في اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفييتية حتى عام 1956، عندما قام الكاتب الروسي إيليا أهرينبورغ، مؤلف رواية «ذوبان الجليد» بتنظيم معرض استعراضي طموح في موسكو ولينينغراد على شاكلة معرض ميلانو، باعتبار بيكاسو فنانا عالميا، يحمل مشعل ولواء المثقفين الشيوعيين الأوروبيين، الذين كانوا يعملون بين باريس وموسكو على بناء الجسور بين الكتل الشيوعية في العالم. ذلك الوقت في إسبانيا، كانت سلطات فرانكو تسعى جاهدة للحصول على اعتراف دولي، وسعت إلى تقديم صورة للتناغم الثقافي مع «العالم الحر». في بينالي ساو باولو عام 1953، على سبيل المثال، تمت برمجة جناح مع فيزكاليز دياز وكاباليرو وميلاريس وطاييس وبالنسيا، ومن بين آخرين، مما شكك في تحديد الحداثة مع الجمهوريين. ردا على ذلك، نقل بيكاسو لوحة غيرنيكا من إيطاليا إلى الجناح الفرنسي احتجاجا، في مواجهة ما بدا له محاولة منحرفة لتزوير الوقائع والأحداث.

القلق في متحف الفن الحديث

في متحف الفن الحديث، كانت الإقامة مستقرة للوحة في ذلك الوقت، مشاركة بيكاسو في هذه الصراعات ومحاولات اليسار الأوروبي الإبقاء على غرنيكا ـ كان ينظر له بقلق، على أمل أن عودتها إلى الولايات المتحدة من شأنه أن يكون «دور الفن المعاصر» في فترة المكارثية، عندما كان الفن الحديث ينظر إليه على أنه شيوعي من قبل جزء كبير من المجتمع الأمريكي. ومع ذلك، تم إرسال غرنيكا إلى أوروبا مرة أخرى في عام 1955، بمناسبة تطبيع العلاقات الفرنسية الألمانية. نظم موريس جاردوت معرضا استعاديا كبيرا في كلا البلدين لهذه المناسبة، وتم عرضه في هاوس دير كونست في ميونيخ، المقر السابق لفن الرايخ، الذي حولته الجمهورية الفيدرالية الألمانية الجديدة إلى نوع من التوجه لسياسة ثقافية مفتوحة أممية وعالمية. في غضون ذلك، كانت الدبلوماسية الإسبانية تحاول استيعاب النجاح الدولي المدوي لـ»الفنان الإسباني» العظيم. اقترح جاردوت عينة فنية بشكل ملحوظ. ومع ذلك، فإن تنظيم جولة أوروبية مفاجئة للوحة غرنيكا سبب قلقا دائما لمدريد فرانكو، بسبب احتمال أن اليسار سوف يستفيد «لتنظيم حملة ضد النظام الإسباني». تمثل أمستردام الخطر الأكبر وفقا للقنصل المحلي، بسبب «الأفكار المتطرفة القريبة جدا من الشيوعية» ويليم ساندبر، أمين متحف ستيديليجك في هولندا. على الرغم من أن كل شيء سار بسلاسة ومرّ بهدوء تام أثناء المعرض. حاول ساندبر إعادة إنشاء الجناح الإسباني في باريس عام 1937 مع منحوتة (جبل مونتسيرات) للنحات الإسباني خوليو غونزاليس، وصور فوتوغرافية لزوجة بيكاسو الفنانة دورا مار ومواد للفنان جوزيف لويز سيرت. وندد الكتالوج بقصف مدينة غيرنيكا الاسبانية، وانتقد سلبية أوروبا في مواجهة ديكتاتورية فرانكو. على الرغم من أن الكاتب الإسباني/ المكسيكي ماكس أوب (Max Aub) كان في حيرة من آثاره على الجمهور الهولندي السلمي في الخمسينات، مقارنة مع المعرض المثير الذي كان قد ساعد على تنظيمه في باريس قبل عشرين عاما: «كل هؤلاء الناس الذين ينظرون إليها، وهم جلوس، ماذا تشعر به؟ الناس من جميع مناحي الحياة – الكهنة والراهبات- مناقشة ما سوف يصيرون؟».

منطق الكتل السياسية

بدأ الأوروبيون في فترة ما بعد الحرب مختلفين تماما عن الجيل المناهض للفاشية. السلام الذي عرفته أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية انبثق عنه انتصار جديد لقيم الديمقراطية، يليه تركيز غير مسبوق للسلطة فرضه العنف والدعاية على نطاق عالمي. في منتصف الخمسينيات من القرن الماضي، لم تستطع أي دولة أوروبية التملص من منطق الكتل السياسية. وقد ضاع كل أمل في الديمقراطية في إسبانيا، فضلا عن التطلعات الاشتراكية في فرنسا وإيطاليا؛ واستمرت مذبحة الاستقلال في الجزائر وبدأت في فيتنام؛ احتل حلف وارسو المجر وفرنسا، وغزت المملكة المتحدة وإسرائيل سيناء. في هذه الحالة، ربما يمكن للمرء أن يقرأ انتصار لوحة «غرنيكا» اعترافها العالمي، كبديل مذهل لانتصار كان في الواقع هزيمة.

غرنيكا خلف زجاج مضاد للرصاص

خلال الفترة الانتقالية في أوروبا، أصبحت عودة «غرنيكا» إلى إسبانيا أولوية مرتبطة بسرد «التطبيع» الديمقراطي. كرر بيكاسو أن اللوحة تخص الجمهورية وأنها وحدها القادرة على المطالبة بها. بعد وفاته في عام 1973، كان من الضروري إقناع الورثة ـ متحف الفن المعاصر في نيويورك (MoMA) ـ في إمكانية نقل ملكية الحقوق الفنية للوحة إلى الملكية البرلمانية الجديدة في إسبانيا. وأخيرا وصلت غرنيكا إلى مدريد في عام 1981 وتم وضعها في متحف «برادو» خلف زجاج مضاد للرصاص، قبل موقعها الحالي في متحف للملكة صوفيا في مدريد. في الولايات المتحدة، كانت هناك نسخة طبق الأصل منها مصنوعة من النسيج بتكليف من نيلسون روكفلر في عام 1955، التي انتهى بها الأمر معلقة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، التي عندما أعلن الجنرال الأمريكي كولن باول حربا على العراق في عام 2003، تمت تغطية النسيج بستارة تدعي وجود مشاكل للكاميرات. في عام 2009، أعادت كذلك الفنانة التشكيلية البولندية جوشكا ماكوجا خلق الموقف المحرج في تنصيبها الفني للوحة في قاعة العرض وايت تشابل في لندن. بالنظر إلى تاريخها القصير، من المدهش قدرة هذه اللوحة ذات الأبعاد الاشتراكية والديمقراطية والإسبانية والعالمية وتحفة الفن المعاصر، على البروز على الساحة الدولية، كلما سمح البشر لأنفسهم بأن يحكمهم الظلم والطغيان والوحشية. ربما لأن اللوحات الأخرى توثق وتجند؛ لكن هذه اللوحة بالذات إشكالية، تجسّد باحترافية مدى وحشية ورعب الحرب الحديثة، وتطرح الأسئلة الاستثنائية على المصير الإنساني، وتطرح أمام المشاهد عبثية الحروب، وعن رهانات أسئلة الأمل المؤجلة أمام مستقبل الإنسانية. وفي الأخير كإنذار مما يمكن للجنس البشري فعله من حماقات بحق الإنسانية جمعاء.

ترجمة “القدس العربي” بتصرف من الإسبانية عن المجلة الإسبانية Política&Prosa

  • خوان خوسيه غوميز : بروفيسور ورئيس قسم الدراسات الجمالية وتاريخ الفلسفة بجامعة إشبيلية.
المقال السابق
جنبلاط: لا تصدقوا الغرب المستعمر

الرصد

مقالات ذات صلة

"المرأة الغامضة" وراء الشركة المرخصة لأجهزة "البيجر" المتفجرة

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية