عاد الجيش الإسرائيلي، مرة جديدة الى جنوب لبنان. الخطة التي جَهَد وأجهزة المخابرات، لسنوات، في وضعها لـ “بلاد حزب الله”، في حال كانت ثمّة ضرورة للعودة إليها، طموحة جدًا. وما يمكن أن يبدأ بأهداف محدودة قد يصبح بلا ضوابط.
لا مجال للوثوق بما أعلنته الحكومة الإسرائيلية عن أهداف العملية البرية داخل لبنان. “لجنة فينوغراد” التي تولّت التحقيق في إخفاقات “حرب لبنان الثانية” ( تموز 2006) هي “المرشد الروحي” للمستويات السياسية والأمنية والعسكرية في إسرائيل . في توصيات “فينوغراد” الكثير من المعطيات التي يمكن أن تنعكس على المستقبل، فالأهداف الكبرى، وفق رؤيتها، لا تُعلَن إلا بعد أن تكون الأهداف الدنيا قد أُنجزت. وما يشاهده الجمي ع، منذ 11 شهرًا، ولا سيّما على المستوى الإستخباراتي، لا يخرج أبدًا عن مسار تلك التوصيات.
إنّ اتكال لبنان على الخارج، وهو عديم التأثير في ظل المعطيات الراهنة، و”المقاومة الإسلامية”، وهي مستمرة بفعل “قوة الجاذبية”، مغامرة خطِرة، حتى لا نقول مقامرة!
هذه هي الحال، لأنّ إسرائيل جهّزت نفسها، بشكل ممتاز لهذه الحرب البرية. لا تملك القوة الغاشمة فقط، بل تمزج الذكاء الإستراتيجي مع الذكاء الاصطناعي، وتراكُم الخبرات مع أحدث التقنيات، والروح العدائية مع الإرادة الشعبية، ورغبة الانتقام مع الشرعية الدولية، وعظمة الطموحات مع تقبّل جسام الخسائر.
إنّ التمهيد لهذه الحرب بالمشهديّات المذهلة التي تُوّجت باغتيال الأمين العام ل”حزب الله” حسن نصرالله، لا تُثبت استعداد إسرائيل فحسب بل عدم جاهزية “المقاومة الإسلامية” لاحتواء، ولو جزئي، لهذا كلّه، أيضًا!
ولذلك لا بد من أن يبادر لبنان الى تغيير عاداته السيئة. هذه المرة، أكثر من أيّ مرة سابقة، لن ينفع مطلقًا، أن تلعب الدولة بكل مؤسساتها، أدوارًا ملحقة ب”حزب الله”، أي أن تكون له “جمعية إغاثة ضخمة” و”ناطقة دبلوماسيّة باسمه”. لا بدّ من أجل منع إسرائيل من الإنجراف الى طموحات كبرى، ظَهَر توافرها في غزة، أن يتغيّر اللاعبون فيها، فلا تعود بين إسرائيل و”حزب الله”، بل تصبح بين إسرائيل ولبنان.
ليس المطلوب أبدًا ركن “حزب الله” جانبًا، لكن لا بد من انتقال القيادة والمبادرة من هذا الحزب الى عهدة الجيش اللبناني، بأقرب وقت ممكن.
الجيش اللبناني ليس ضعيفًا أبدًا. لديه الكثير من الحصانات. هو رمز الوحدة الوطنية، وهو المعني الوحيد بصون الحدود، وهو الصديق الموثوق من الغرب والشرق، وهو من يخشى عليه واضعو الإستراتيجيات الخاصة بالشرق الأوسط، من الانقسام والضعف والهزيمة. وهو من لا تستطيع جامعة الدول العربية أن تغض الطرف عنه، هنا وأن تتمنّى التخلص من أعبائه، هناك.
الجيش اللبناني وخلفه ما تبقى من مؤسسات دستورية، مهما كانت مشلّعة وضعيفة، يملك مؤهلات وقف الحرب، بسرعة، ومنع إسرائيل من أن تحلم وتجرؤ على تنفيذ حلمها. وهو ومعه جميع هؤلاء، لديهم القرار 1701.
مشكلة لبنان مع الشرعية الدولية تكمن تحديدًا في أنّه عاجز عن احترام قرار تعهّد بتطبيقه، وعلى أساسه تمّ تعزيز اليونيفيل، فتوقفت الحرب في العام 2006. “حزب الله” استهزأ باليونيفيل والشرعية الدولية، تمامًا كما بالدولة والسلطات والمؤسسات والدستور وسائر اللبنانيين. هو يتّبع دستورًا غير الدستور اللبناني وجمهوريته الحقيقية لا تقيم اعتبارًا للجمهورية اللبنان ية.
قوة إسرائيل في الموضوع اللبناني مع الشرعية الدولية تنبع من نقطة الوهن اللبنانية، وبالتالي يمكنها أن تستغلها شر استغلال.
وحده انتقال الجيش من دور الملحق بحزب الله إلى دور القائد، يقلب كل المعادلات، ويعيد لبنان الى الشرعية الدولية ويضطر إسرائيل الى أن تعيد حساباتها الحربية.
ولم يعد سرًّا أنّ “حزب الله”، وقبل أن نسأل عن نتائج الحرب البرية التي من دون شك يستطيع فيها أن يلحق أضرارًا بالجيش الإسرائيلي الذي كما هو واضح يأخذها بالإعتبار حتى قبل أن تحل “الساعة صفر”، قد مني بهزيمة كبيرة. لقد ظهر أنّه لا يعرف ماذا يفعل. كان مطمئنًا الى ما لا يجوز الإطمئنان إليه. كان واثقًا، وأحيانًا الى حدود تخوين من يشكك، بأنّ إسرائيل سوف تبقى مضبوطة في معادلات حرب الإستنزاف الى أن تنتهي الحرب في غزة. ومن يخطئ في تقدير مسألة بهذه المحورية يمكنه أن يخطئ بمسائل أخرى، من بينها تقييم قدراته الفعلية في منع العدو من احتلال الأرض وتوسيع رقعة عملياته الى مستويات خطرة للغاية. مستويات قد تصل، وفق بعض المحللين العسكريين في إسرائيل، إلى حدود مطاردة وحدات “حزب الله”، وفي مقدمتها “وحدة الرضوان”، حتى الضاحية الجنوبية لبيروت، وفق ما كتب تامير هايمن . قد يكون هايمن محقًا، فمن اعتبروا آرييل شارون “متخاذلًا” يتربعون اليوم معًا في سدّة صناعة القرار وتنفيذه في إسرائيل.
لا يحتاج تحقيق هذه الخطوة التي تنقل الجيش من موقع التابع إلى موقع القائد، إلّا إلى بعض الشجاعة الوطنية. مشكلة هؤلاء الذين يحسبون ألف حساب في لبنان و”يضربون الأخماس بالأسداس” أنّهم لا يدركوا أنّهم، مهما فعلوا، سيوضعون في خانة العملاء أو المتخاذلين. “حزب الله” سوف يكون، في المرحلة اللاحقة، مضطرًّا الى فبركة “كبش فداء”. بعد العام 2006 كان هناك فؤاد السنيورة ومعه وليد جنبلاط وسعد الحريري. في العام 2025، لأنّ الحرب إن بقيت بقيادة “حزب الله” سوف تكون طويلة، سيكون هناك نجيب ميقاتي وجوزف عون ومعهما قوى المعارضة والمجتمع المدني.
إنّ تسليم القيادة الى من يملك المرجعية الدستورية لا ينقذ لبنان فحسب ، بل ينقذ رؤوس هؤلاء المعنيين بشحذ أنفسهم بشيء من الشجاعة الوطنية، أيضًا!