لن يجرؤ أيّ مسؤول لبناني على أن يكتب، ولو تلميحًا، ما ورد في مقالة رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني الذي يحاول أن يرفع عن بلاده تهمة الخضوع لإيران.
في مقالة نشرتها له “فورين أفيرز” الأميركية أطلق السوداني مواقف عدة، فركز على جملة مبادئ لعلّ أهمّها، في هذه المرحلة، الآتي: العراق أوّلًا. قرار الحرب والسلم يجب أن يكون شأنًا خاصًا بالدولة. رفض الهجمات على المصالح الأميركية في العراق أو في الدول المجاورة. الوقوف في وجه تحويل العراق إلى ساحة لتصفية حسابات أي جهة خارجية، فهو ليس وكيلاً لصراعات أخرى.
والسوداني الذي أطلق هذه المواقف ليس “صهيونيًّا” ولا “امبرياليًّا” ولا ” انعزاليًّا” ، و”لم يأتِ على ظهر دبابة أميركية”، بل هو “صديق إيران” وكان لها الفضل الأكبر في وصوله الى منصبه الدستوري.
ولكنّ رئيس الحكومة العراقية، ومن أجل توفير مصالح بلاده، إنتزع، كما سلفه مصطفى الكاظمي، حريّة التعبير عن المبادئ التي يمكنها وحدها أن تفتح كوّة الأمل لمستقبل العراق وإخراجه من جحيمه الذي طال، إذ يستطيع على أساسها أن يتواصل مع الغرب والشرق ويستفيد منهما.
ولم يخترع السوداني في هذا المقال الذي جاء عشية توجهه الإثنين المقبل الى واشنطن في زيارة رسمية، البارود، فكل دولة تطمح الى أن تُخرج نفسها من كارثتها، عليها أن تسلك هذا المسار السيادي.
وهذه المبادئ سبق أن رفعها لبنان، بعد انسحاب جيش النظام السوري منه، ولا يزال بعض أبنائه يرفعونها عاليًا، ولكنّ هيمنة “حزب الله” على القرار، طوّع السلطة وفتّتها وحاصر المعارضة التي تشبه في أقوالها لسان السوداني، واضطهدها.
الفارق حاليًّا بين العراق ولبنان كبير. في “بلاد الرافدين” لم تنجح إيران بعد، على الرغم من كل مساعيها، في تمكين “حزبها الولائي” من السيطرة على كامل القرار السياسي وإخضاع المجموعات التي يتكوّن منها الموزاييك الوطني. أمّا في “بلاد الأرز” فهذه المهمة الولائية تكاد تكون قد شارفت على الإنتهاء، والأدلة على ذلك كثيرة، ول علّ أكثرها إثباتًا، يتمثل في بدء الأمين العام ل”حزب الله” حسن نصرالله في إطلاق صفة “القائد” على مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران علي خامنئي!
و” القائد”، بالنسبة لتنظيم مسلّح حتى أسنانه، كما هي عليه حال “حزب الله”، له أبعاد عسكريّة وسياسيّة وعقائدية، فهو الذي يرسم الإستراتيجيات، وهو الذي يصدر الأوامر، وهو الذي يتحكم بكل القرارات.
ومن يوالي “القائد” يُنفّذ أوامره ويلتزم بتوفير قوته ومصلحته، حتى على حسابه الشخصي.
وبهذا المعنى، فإنّ “حزب الله” الذي له قائد هو المرشد الإيراني، لا يمكن أن يذهب الى الحرب أو السلم، إلّا بناء لقواعد الطاعة.
وقواعد الطاعة لا تقيم أيّ اعتبار للمصالح الوطنية إلّا إذا تقاطعت مع مصالح “القائد”، ولكن متى تضاربت المصلحتان تتقدم مصلحة “القائد”.
وهذا ما تلمّسه اللبنانيون، بدءً من الثامن من تشرين الاول الماضي، حيث أدخل “حزب الله” بلادهم المنهارة والمفقرة والمجرّحة بأتون مواجهة عسكريّة خطرة للغاية، فاكتشفوا، بعد تهاوي آخر الشعارات التحريرية، أنّهم ليسوا أكثر من “أكياس رمل” في متاريس واحدة من جبهات “محور المقاومة”.
ثمة مرجعيات وطنية ودينية في لبنان ترفع الصوت، مرارًا وتكرارًا، من أجل تحقيق مطالب عدة، ولكنّها لا تلتفت الى أنّ ما تنشده هو التخلّص من عوارض المرض وليس من المرض نفسه.
الفراغ الرئاسي، الشلل السلطوي، الإنهيار المؤسساتي، غياب الأمن، تفاقم المشاكل كما هي عليه حال ملف اللاجئين السوريين، هيمنة حزب مسلّح على قرار الحرب والسلم، وغير ذلك الكثير، ليست سوى ثمار بديهية ، لموالاة “الحزب المسيطر” لقائد موجود في إيران التي تسعى الى تعظيم نفسها من خلال التنظيمات التي أنشأتها في المنطقة.
ووجود حزب بحجم “حزب الله” يتبع قائدًا أجنبيًّا، يضرب الدستور ويسقط منظومة القوانين الخاصة بأمني الدولة الداخلي والخارجي، معًا.
لا يمكن اعتبار رئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني بطلًا تحرريًّا، بطبيعة الحال، لأنّ ما يقدم عليه يتم بالتنسيق الكامل مع إيران التي تكلّف العراق، بالنظر لواقعه الديموغرافي والجيو سياسي، بمهمة إبقاء الجسور بينها وبين الغرب ممدودة.
ولكن يمكن القياس على السوداني لمعرفة أنّ الدول، حتى لو كانت ضمن “محور الممانعة”، تستطيع، طالما لم تسمح لمن يرفع مرشد الجمهورية الإسلامية الى مصاف القائد بالهيمنة عليها، أن تُناور حتى تقطف ثمارًا معقولة حتى لو لم تكن لذيذة!
ما يتاح للعراق لا يُتاح للبنان، لأنّ صورة القائد تأخذ مكان صورة الرئ يس ونص الدستور ومواد القانون ومبادئ الشرعة العالمية لحقوق الإنسان وسيادة حماية الوطن حتى من أصدق الحلفاء!