وجدت بيانات صادرة عن “الصندوق العالمي لبحوث السرطان” أنه من بين 387 ألف مريض شخصت الفحوص إصابتهم بالسرطان في المملكة المتحدة بين عامي 2019 و2020، كان في المستطاع الحؤول دون وقوع 40 في المئة من هذه الحالات من طريق إدخال تغييرات صحية على أسلوب العيش.
ويقول تيموثي ريبيك، وهو بروفيسور في “جامعة هارفارد” و”معهد دانا فاربر للسرطان”، “لا شك في أن الحمية الغذائية والتغذية يؤديان دوراً كبيراً في الإصابة بالسرطان من عدمها”.
ولكن مع ذلك، يقول البروفيسور ريبيك إن هذه العلاقة ليست واضحة تماماً: “كل واحد منا جميعاً كبشر فريد من نوعه ولدينا قابليات مختلفة للإصابة بالأمراض، بسبب الوراثة أو البيولوجيا، اللذين يحددان خطر الإصابة بالسرطان لدينا”.
ويضيف “لهذا السبب يستفيد بعض الناس مما يسمّى’تأثير ونستون تشرشل‘، إذ تراهم يشربون ويدخنون السجائر طوال حياتهم، ومع ذلك يصلون إلى عمر الـ90، وما زالوا يتمتعون بصحة جيدة. كلنا نعرف شخصاً على هذه الشاكلة. وفي الوقت نفسه، كلنا نعرف أيضاً شخصاً يعيش حياة صحية، ولا يدخن أبداً، ويحافظ على وزن صحي، ويمارس الرياضة، ولكنه مع ذلك يصاب بالسرطان في سن مبكرة”.
ويقول البروفيسور ريبيك أيضاً أن للنظام الغذائي والتغذية دوراً محدوداً جداً في بعض أنواع السرطان. “مثلاً، لا يبدو أن سرطان البروستاتا يتأثر كثيراً بالحمية أو التغذية”. ولكن، ممارسة الرياضة تضطلع بدور في الوقائة من الإصابة السرطانات، إذ وجد باحثون من “المدرسة السويدية للرياضة وعلوم الصحة” في استوكهولم في السويد أخيراً أن الرجال يمكنهم تقليص الخطر الذي يتهددهم بنسبة تبلغ 35 في المئة من طريق زيادة نشاط القلب وا لأوعية الدموية بما نسبته ثلاثة في المئة.
ومع ذلك، في حين لا يتأثر سرطان البروستاتا بالنظام الغذائي، يقول البروفيسور ريبيك إن سرطان المستقيم، الذي يسمى أحياناً بسرطان القولون، “يتأثر بشدة” بما نستهلكه من طعام.
ولكن كيف يكون هذا التأثير؟ يقول البروفيسور ريبيك إنه “يختلف من سرطان إلى آخر، لكننا نعتمد على بعض المبادئ الأساسية. نعلم أن الأطعمة المصنعة والأطعمة الفائقة المعالجة (اختصاراً “يو بي اف” UPFs) ليست جيدة من ناحية زيادة احتمال الإصابة بالسرطان. إنها المنتجات التي تحتوي على أكثر من ثلاثة مكونات، والأطعمة التي لا تشبه شكلها الأساسي، ومأكولات لن تتعرف إليها جدتك. يبدو أن هذه الأطعمة تسبب مشكلات كثيرة من ناحية الإصابة بالسرطان”.
في الواقع، وجدت دراسة نهضت بها “إمبريال كوليدج لندن” في فبراير (شباط) 2023 أن الاستهلاك العالي للأطعمة الفائقة المعالجة ربما يفاقم خطر الإصابة بـ34 نوعاً مختلفاً من السرطان، تحديداً سرطانات الدماغ والثدي والمبيض، والوفاة بسببها. ووجد الباحثون أن كل زيادة بنسبة 10 في المئة في هذه الأطعمة، تقابلها زيادة بنسبة اثنين في المئة في إجمالي حالات السرطان، حتى مع الأخذ في الاعتبار الوضعين الاجتماعي والاقتصادي وعوامل أخرى مثل التدخين والوزن.
يعزى ذلك بدرجة كبيرة، وفق البروفيسور ريبيك، إلى طرق معالجة هذه الأطعمة التي تكون في الغالب بخسة الثمن وتشمل منتجات مثل المشروبات الغازية والمخبوزات الطويلة الأمد والوجبات الجاهزة، ويعزى أيضاً إلى المستويات العالية من الدهون والملح والسكر والمواد المضافة التي تحتوي عليها.
ويقول البروفيسور ريبيك إن “أحداً لن يكون سعيداً بهذا الكلام، ولكن للكحول أيضاً علاقة وثيقة بالإصابة بالسرطان”. وفق “مؤسسة بحوث السرطان” Cancer Research، من شأن استهلاك الكحول أن يكون عاملاً مسبباً لسبعة أنواع مختلفة من السرطان (الثدي والأمعاء والفم وثلاثة أنواع سرطانية تطاول الحلق والكبد)، وفي يناير (كانون الثاني) 2023 ذكرت “منظمة الصحة العالمية” أنه لا كمية محددة من الكحول آمنة للشرب.
وفق البروفيسور ريبيك، الكحول “مادة مسرطنة من الدرجة الأولى. كنا نظن أن تناول كميات صغيرة منه أمر مقبول، ولكن تغير رأينا الآن. ولكن الجدل ما زال دائراً حول فوائد الكحول بالنسبة إلى صحة القلب والأوعية الدموية. عليه، إذا كان خطر مواجهتك السرطان منخفضاً ولكن خطر الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية مرتفع، فهل تناول كوب من النبيذ الأحمر من حين إلى آخر خيار جيد؟ عليك أن تزن هذا الخطر.
ويقول البروفيسور ريبيك إنه في صفوف فئات م عينة من السكان، يشكل استهلاك الكحول خياراً سيئاً جداً بالنسبة إلى بعض أنواع السرطان. مثلاً، يرتبط الإفراط في شرب الخمر لدى النساء الشابات “بشكل واضح جداً” بأخطار الإصابة بسرطان الثدي في السنوات اللاحقة من عمرهن، وذلك بسبب ما يسميه البروفيسور ريبيك “التفاعلات الكيماوية النهائية” التي يسببها هذا المشروب.
ويتابع “المسار الأيضي الذي يسلكه يسبب كل أنواع المشكلات. يتحول في الجسم إلى مواد كيماوية مثل ’الألدهيدات‘ [صنف من المركبات العضوية]، التي تسبب طفرات في الحمض النووي الريبوزي منقوص الأوكسجين (دي أن أي)DNA ، ويمكن أن تؤدي إلى تلف في أنسجة الثدي. كذلك يؤثر سلباً في الأنسجة الأخرى أيضاً، ولكن بشكل خاص في أنسجة الثدي. وفي الوقت نفسه، يرتبط الشرب المزمن والكثير للمشروبات الكحولية بسرطان الحلق”.
كذلك وجدت [الدراسات] علاقة بين استهلاك اللحوم وأخطار الإصابة بالسرطان، خصوصاً الأمعاء. في عام 2019، تبين للباحثين أن حتى الكميات المعتدلة من اللحوم الحمراء والمعالجة ترفع خطر الإصابة بسرطان الأمعاء، وحالياً تنصح “خدمة الصحة الوطنية” (أن أتش أس) في بريطانيا من يتناولون أكثر من 90 غراماً يومياً بخفض الكمية إلى ما لا يزيد على 70 غراماً من اللحوم.
ويوضح البروفيسور ريبيك أ ن اللحوم المعالجة جداً أو المحفوظة أو المحروقة تنطوي على خطر كبير جداً بالنسبة إلى الإصابة بالسرطان. “لا نعني بهذا الكلام أن عليك أن تكون نباتياً، ولكننا نعلم أن اتباع نظام غذائي نباتي في معظمه أفضل بالنسبة إلينا في ما يتصل بخطر الإصابة بالسرطان، ويمكن أن توفر لك المكسرات والفاصوليا والبقوليات البروتين”.
وأخيراً، انتبه إلى وزنك. يذكر “الصندوق العالمي لبحوث السرطان” أن الحفاظ على وزن صحي طوال سنوات مرحلة البلوغ من حياتك يشكل إحدى أفضل الطرق للوقاية من السرطان. وتشير أدلة إلى أن زيادة الوزن من شأنها أن تفاقم احتمال الإصابة بكثير من أنواع السرطان، من بينها سرطان الكبد والثدي والكلى والمريء.
يوافق البروفيسور ريبيك هذا الرأي قائلاً إن “زيادة الكيلوغرامات تفاقم خطر الإصابة بالسرطان، لذا فإن خفض خطر السمنة لديك سيقلل من الالتهابات ومن تلف “الحمض النووي الريبوزي المنقوص الأوكسجين”. والجديد هنا أن أدوية مثل “أوزمبيك” Ozempic، التي تخلصك من قدر كبير من الوزن بسهولة نسبية، في يدها أن تصنع ثورة في تعاملنا مع السرطان. وربما يتأتى ذلك في المدى المنظور”.
ولكن حتى ذلك الحين، يقول البروفيسور ريبيك إن رؤيته إلى نظامه الغذائي تتلخص في تناول كميات قليلة من الأطعمة، ومعظمها نباتات تنب ت في الأرض أو على الأشجار، وفي الحد من حجم الحصص. ويساعد الصيام في تحقيق ذلك لأنه، نتيجة لذلك، تحد من كميات الطعام التي تتناولها في إطار زمني واحد. كذلك تساعد ممارسة الرياضة في مواجهة السرطان، خصوصاً في منع ظهوره مجدداً أو ما يسمى “انتكاسة”. وجدت دراسة تعود لعام 2021 أن خطر عودة السرطان بلغ 63 في المئة لدى ناجيات من سرطان الثدي مارسن التمارين الرياضية بانتظام، بينما وجدت دراسة أجريت عام 2023 أن ممارسة اليوغا مرتين أسبوعياً تقلص هذا الخطر.
وفي حين أن العوامل المتصلة بأسلوب الحياة أثبتت بما لا يدعو إلى الشك أنها تسهم في الإصابة بالسرطان من عدمها، ولكن كما يظهر “تأثير ونستون تشرشل” فالمسألة تبقى معقدة. يقول البروفيسور ريبيك إن “المعلومات الخاطئة حول الصحة منتشرة في كل مكان”. والمثير للقلق، أنه في 2023 وجدت إحدى الدراسات أن ملايين النساء يلجأن الآن إلى منصات التواصل الاجتماعي من قبيل “تيك توك” للحصول على المشورة الصحية بعد تشخيص إصابتهن بالسرطان، ولكن في الحقيقة تكون غالبية هذه المعلومات مضللة أو غير دقيقة، بحسب ما وجد باحثون من “جامعة ولاية أوهايو”.
ويوضح قائلاً “بعض المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي تعتبر معلومات مضللة تماماً. وثمة منشورات أخرى تحمل بعض الحقيقة الأساسية، ولكن أسيء تفسير فوائدها أو بولغ فيها”، مضيفاً أن أحد الأمثلة الصارخة على ذلك الإعراض عن العلاج الكيماوي واستبداله بشاي من الأعشاب أو عصائر خضراء. “إنه أمر خطر. لا ضرر في تناول العصير الأخضر أو شاي الأعشاب، ولكنهما لن يعالجا السرطان”.
بدلاً من ذلك، يقول البروفيسور ريبيك، “إذا كنت تخوض علاجاً للسرطان، أو تمر في مرحلة التعافي منه، فمن المفيد جداً التحدث إلى اختصاصي تغذية أو اختصاصي حميات غذائية، “لأن شهيتك ربما تكون قليلة أو معدومة، أو ربما تحتاج إلى زيادة في الوزن”.
وتشير خبيرة التغذية جين كلارك إلى وجود “نقص في المعلومات المتداولة حول هذه النقطة. أحداً لا يتحدث عن حقيقة أن مرضى السرطان يمكن أن تتدهور صحتهم عند العقبة الأولى لأنهم لا يحصلون على ما يكفي من التغذية، وذلك لأنهم قد يعانون تغيرات في الشهية والمذاق أو التهاباً في الفم”.
وتضيف كلارك “معروف أن علاج السرطان يهاجم أيضاً الخلايا السريعة الانقسام، وذلك مرادنا أيضاً، ولكن أمعاءنا تحتوي على كثير من الخلايا السريعة الانقسام، لذا يمكن أن يضر العلاج بالأمعاء، مما يسبب المرض، أو فقدان الشهية، أو خسارة الفوائد من الأطعمة التي يستطيع المريض أن يتناولها. تعتبر علاجات السرطان فاعلة جداً، ولكن فاعليتها لا تساعد الجسم دائماً في الحصول على الفوائد التي يحتاج إليها من الطعام. كذلك تؤثر صدمة التشخيص سلباً في الشهية”.
وتساعد جين كلارك كثراً من مرضى السرطان، وتقدم نصائح عدة لهم مثل إضافة قليل من جبنة “الدوبل كريم” إلى حساء طازج منزلي الصنع، للحصول على “سعرات حرارية محببة ومهدئة وسهلة البلع”. وتنصح أيضاً بتجنب الوجبات السريعة والسكر، التي تعطل ميكروبيوم الأمعاء في وقت يكون فيه أصلاً تحت الضغط.
رايان رايلي بدوره، أنشأ “لايف كيتشين” Life Kitchen، الذي أسسه مع الشيف كيمبرلي ديوك. رايان وكيمبرلي، اللذان فقدا أحد والديهما بسبب السرطان، افتتحا “لايف كيتشين”، الذي يقدم سلسلة من دروس الطبخ المجانية والفاعليات للمصابين بالسرطان. يقول رايان: “أهداف دروسنا لا تتعلق بالتغذية بالضرورة، بل أيضاً بنكهة الطعام والاستمتاع به. حدث ذلك من خلال وفاة والدتي، عندما كان عمري 20 عاماً، وكان المشقة الأخيرة في حياتها عدم القدرة على الاستمتاع بالطعام”.
ويضيف “يترك كثير من أشكال العلاج الكيماوي أو العلاج الإشعاعي تأثيراً مدمراً في حاسة التذوق لديك عبر إضعافها أو تشويهها، فضلاً عن التسبب في الإعياء أو الغثيان. يكون تناول الطعام أثناء الإصابة بالسرطان مهمة صعبة لأن مرضى كثراً يحتاجون إلى تناول الطعام لتغذية أجسامهم في أثناء ال علاج وبعده”.
ويكمل “قد تجد أيضاً أنك تتوق إلى مأكولات معينة، وفي حالة أمي كانت تلك المأكولات المثلجات، لأن كمية السكر أعطتها لحظة من المتعة خلال وقت عصيب. وبينما تتعافى، فإن تناول مجموعة متنوعة من الأطعمة اللذيذة يمكن أن يكون غالباً أحد انتصارات الحياة الصغيرة. ولكن كل ما يهم حقاً أن يجد الطعام طريقه إلى أمعائك”.
ويوافق ريبيك على هذا الكلام موضحاً أنه “لا بد من الإشارة أيضاً إلى أن هناك كثيراً من الخطوات التي يسعك القيام بها كي تلجم خطر الإصابة بالسرطان في الأساس، تعود عليك بالنفع حقاً في مرحلة ما بعد التشخيص، أو ما بعد العلاج”. من كتاب “متع صغيرة: وصفات ممتعة للأوقات الصعبة” بقلم رايان رايلي متوفر حالياً في المكتبات