ينشر “نيوزاليست” سلسلة حلقات حول ما يسمى “بجراح الروح الخمس”، ومدى تأثيرها على سلوكنا وعلاقتنا بالآخرين، وطريقة الشفاء منها، وكلّها مستوحاة من كتاب المعالِجة الكنديّة ليز بوربو، “الإصابات الخمس التي تمنعك من أن تكون على طبيعتك”، الذي تتحدّث فيه عن العلاقة بين الجراح الداخلية والمظهر الخارجي للفرد مستندة بذلك الى شهادات أشخاص عالجتهم في عيادتها الخاصة.
واعتبرت بوربو أنّ “جراح البدايات الناجمة عن تجاربنا الأوليّة مع العالم الخارجي، لا يمكن أن تلتئم ابدًا”.
لكن ما هي هذه الجراح؟ وكيف يمكننا معرفة جرحنا الذي يمنعنا من العيش بوئام وسلام مع أنفسنا؟ وهل يمكن أن يكون في داخلنا أكثر من جرح؟ وكيف السبيل الى التحرّر من قبضتها او الشفاء منها؟
أنواع الجراح
أشرنا في الحلقة السابقة إلى كيفيّة توزيع الجراح على خمسة اقسام، و”القناع” الذي يرافق كلّ جرح، ممّا يمكنه أن يشرح “رد الفعل الدفاعي” الذي نلجأ اليه في مواجهة مواقف قد تحدث معنا، عليه فإنّ الشخصُ الذي يعاني من جرح الرفض يرتدي قناع الهارب، والذي يعاني من جرح التخلّي يرتدي قناع التابع والتعلق بالآخرين بشكلٍ م رضيّ، والذي يعاني من جرح الإذلال يرتدي قناع المازوشي او المتلذذ بعذاب الذات، والذي يعاني من جرح الخيانة يرتدي قناع المتحكّم والمراقب، أمّا الذي يعاني من جرح الظلم فإنه يرتدي قناع الصلابة.
وتقول بوربو: “قد يعاني الانسان من أكثر من جرح على السواء، كالخيانة والظلم مثلًا، أي قد يعاني من صدمة الظلم مع شخص من جنسه، وصدمة الخيانة مع شخص من الجنس الآخر، حتى انه قد يكون داخل الشخص ثلاثة او أربعة جراح لكن نادرًا ما تصل الى خمسة”.
وكنا قد تكلّمنا في الحلقة السابقة بشكل مفصّل، عن جرح الرفض والقناع الذي يرتديه لإخفاء جرحه، والذي أطلقت عليه تسمية ” قناع الهارب”، اما في حلقة اليوم فسوف نتحدّث عن “جرح الهجر” و”قناع التابع”.
( للاطلاع على الحلقة الأولى، إنقر/ ي هنا)
جرح الهجر وقناع التابع
قد يتراءى لنا للوهلة الأولى غياب أيّ فرق في المعنى بين كلمة “الرفض” و”الهجر”، بَيْد أنّه لا يوجد أيّ رابط بينهما، في الواقع.
وتعرّف ليز بوربو الرفض فتقول: ” الرفض هو ترك الشخص، أي الابتعاد عنه من أجل شخص أو شيء آخر، وغالبًا ما يستخدم هذا الشخص عبارة (لا أريد)، في حين أنّ الهجر أو الشخص الذي يغادر ويترك يستخدم عبارة (لا أستطيع).
وتعتبر بوربو: أنّ “جرح الهجر هو ثاني أعمق جرح بعد جرح الرفض، والعدوّ الأوّل لأولئك الذين عانوا من الهجر في مرحلة الطفولة كونه يطال الشخص مباشرة”.
قد يأتي هذا الجرح نتيجة شعور الطفل بأنه جرى التخلّي والابتعاد عنه من قبل والديه، كانشغالهما عنه بالعمل، أو إنجاب طفلٍ آخر، أو في حال حدوث طلاق، أو وفاة، او تركه مع المربيّة… الخ.
وترى بوربو أنّ جرح الهجر “قد يولد من واقع أنّ أحد الوالدين منغلق ويترك للطرف الآخر السيطرة بشكل كامل”.
وتعتبر أنّ الأشخاص الذين يعانون من “جرح الهجر”، “يلجؤون، في غالب الأحيان، إلى ارتداء قناع التعلّق بالآخرين بشكل مرضيّ”، او ما أسمته بقناع “التابع”. و”لتفادي رؤية جرحهم”، تضيف بوربو في كتابها، “يتحوّل الشخص الذي يعاني من هذا الجرح الى شخص تابع، غير مستقلّ، متعلّق بالآخرين بشكل مرضيّ، ويعتمد عليهم، خصوصًا في العلاقات العاطفيّة”.
فالطفل الذي تتلهّى عنه والدته، بسبب كثرة مشاغلها في العمل، او الإنجاب، أو مرض ما، او المشاكل الزوجية… قد تنمّي لديه، عن غير قصد، شعورًا بالرفض تجاهه، والإحساس بالتخلّي عنه، فيتحوّل مع الوقت الى شخص غير مستقلّ، اتكاليّ، مفرط الحساسيّة، قد تُسبّب له أتفه الأسباب، كالإنسحاب من مكالمة هاتفيّة مثلًا، او إلغاء موعد ما، حالة من الحزن والألم وتجعله يشعر بالإحباط والخوف من التخلي عنه.
وتقول بوربو إنّ “الشخص الذي عانى من ذلك في طفولته، سوف يفعل المستحيل، عندما يصبح بالغًا، لمنع تكرار ما حدث معه، لذلك نراه يسارع الى التخلّي عن أصدقائه أو شركائه بطريقة استباقية، احتسابًا لأي خطوة قد تُتّخذ تجاهه”.
__صفات التّابع
أمّا صفات التّابع فهي الآتية:
تعلّقه المرضي بالآخرين، وسعيه إلى أن يكون ضحيّتهم وضحيّة الظروف والاحداث المحيطة به.
سعيه الدائم الى طلب رضا الآخرين واستحسانهم.
-اهتمامه بلفت الأنظار اليه.
شخصيّته دراماتيكيّة، بحيث تحوّل أتفه الأمور الى مأساة.
متقلّب المزاج.
“طلباته أوامر”، فكلمة “لا” تجعل منه انسانًا حزينًا.
يطلب النصائح من دون ان يتقيّد بها.
يبحث دائمًا عن حضور الآخرين الى جانبه، لأنّه لا يتحمّل البقاء وحيدًا.
الخصائص الجسديّة للتابع
تصف ليز بوربو جسم ” التابع” “بالخالٍ من الطاقة والحيويّة”. وتضيف: “لديه ضعف في الجهاز العضلي، عيونه كبيرة وحزينة، وصوته طفولي ضعيف، ويعاني من أمراض الربو، ضعف النظر، النوبات العصبية والكآبة”.
الشفاء والتحرّر من “جرح الهجر”
من غير الممكن أن نتخلّص من ” جرح الهجر” والشفاء منه، “إذا لم نقم اوّلًا بتحديد أولوياتنا بالحياة”، كما تقول بوربو.
وتضيف: ” أما الخطوة الثانية فتكون في تقديرنا لذاتنا، ومن ثمّ تحرير أنفسنا من ماضينا من خلال مسامحة الآخرين”.
وتستطرد ليز بوربو: “طبعًا نحن من البشر، ونسيان الإساءة والمسامحة ليس بالأمر السهل، ولكن جلّ ما يمكن القيام به هو التوقّف عن تحميل الآخرين وخصوصًا أهلنا، مسؤولية ما آلت اليه أمورنا، وأن نكفّ عن إقناع أنفسنا بأنّنا ضحاياهم، ونتوقّف عن اختلاق المشاكل وتضخيمها، ونعمل من الحبّة قبّة، ونحاول الاستفادة من عزلتنا التي نضع أنفسنا فيها ونعيد النظر بالمقرّبين منّا ونثق بهم”.
اما الخطوة التالية، تضيف بوربو: “فتكون بتقبّلنا رفض الآخرين لنا، فحامل جرح الهجر معروف بقدرته على الابتزاز والمواربة لينال رضا الآخرين والحصول على مبتغاه، فيبذل الغالي والنفيس ليكون محبوبًا ومقبولًا”.
وهكذا، فإنّ الزوجة التي تعاني من “جرح الهجر” وتهجس بأن يهجرها زوجها، غالبًا ما تتحمّل اساءاته وسخرياته أمام الملأ، ولكنّها تذرف الدموع على وسادتها، فنراها قليلة الاحترام لذاتها، فاقدة الثقة بنفسها.
(يتبع)