هآرتس- يوسي ميلمان
MAD هي الأحرف الأولى لعبارة “Mutual Assured Destruction” التدمير المتبادل الأكيد، وهي عقيدة استراتيجية تعود إلى أيام الحرب الباردة في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي. والهدف منها خلق ردع وتوازُن رعب يحول دون نشوب حرب نووية بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. وبحسب هذه النظرية، إذا هاجمت دولة بسلاح نووي، فسيكون لدى الطرف الذي تعرّض للهجوم ما يكفي من المخزون من القنابل النووية التي تسمح بتوجيه “ضربة ثانية” إلى المهاجم والتسبب بالتدمير المتبادل للطرفين.
ما يحدث على الحدود اللبنانية منذ هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول/ أكتوبر، والحرب في غزة، يشكل نسخة إقليمية من عقيدة MAD غير النووية، نسخة تقليدية، لكنها يمكن أن تكون فتاكة جداً. لدى إسرائيل وحزب الله منظومات سلاح قادرة على التسبب بدمار كبير للمدن والبنى التحتية المدنية والعسكرية، وتؤدي إلى مقتل مئات الآلاف من الناس. لمحة صغيرة (ومختصرة) مما يمكن أن يحدث إذا نشبت حرب شاملة بين الطرفين، نراها كل يوم منذ 4 أشهر ونصف من حرب الاستنزاف المتبادلة.
لقد أطلق حزب الله آلاف القذائف الصاروخية والصواريخ المضادة للدروع والقذائف المدفعية والمسيّرات في اتجاه كلّ الكيبوتسات والمستوطنات على طول الحدود، من رأس الناقورة حتى المطلة، ونحو مستوطنات أبعد في سهل الحولة، ونحو كريات شمونة وصفد وشلومي. فاضطر نحو 60 ألفاً من السكان إلى مغادرة بلداتهم التي تضررت فيها مئات المباني. بالإضافة إلى ذلك، أصابت صواريخ حزب الله قواعد عسكرية صغيرة وكبيرة، مثل قيادة المنطقة الشمالية، ووحدة المراقبة الجوية في جبل ميرون، وغيرها، حيث قُتل 15 جندياً ومواطناً في هذه الجبهة.
تدّعي إسرائيل أنها تردّ بعمليات قاسية جداً. وتهاجم بواسطة الطائرات الحربية والمسيّرات، وبالقصف المدفعي والصاروخي. وبالاستناد إلى تقارير أجنبية، نفّذت أيضاً عمليات استخباراتية أسفرت عن مقتل نائب زعيم “حماس” صالح العاروري وقائد فرقة الرضوان. وبحسب وزير الدفاع يوآف غالانت ورئيس الأركان هرتسي هليفي والناطق بلسان الجيش دانيال هغاري، أدت هجمات الجيش الإسرائيلي إلى إصابة عدد كبير من قواعد حزب الله ومخازن صواريخه، كما قُصف مطار أنشأته إيران في الجنوب اللبناني، وقُتل أكثر من 200 مقاتل من حزب الله.
لكن الحقيقة المرّة أن الضرر الذي لحِق بحزب الله ليس كبيراً. صحيح أن عناصر فرقة الرضوان تراجعوا نحو 2 كلم عن الحدود، بعد الخسائر التي لحقت لهم، لكن تراجُعهم كان نتيجة قرار مدروس اتخذته قيادة الحزب، وليس ناجماً عن ضغط إسرائيلي. والغرض منه الحد من الخسائر البشرية للقوة. فحزب الله حساس أيضاً حيال خسائره البشرية.
… حزب الله يستخلص الدروس من حرب غزة. في 7 تشرين الأول/أكتوبر، أرسلت “حماس” وحدات النخبة لديها لمهاجمة إسرائيل من دون التفكير في “اليوم التالي”. لم يقدّر يحيى السنوار وقادته أن الهجوم سيحقق هذا النجاح الكبير، وأن عناصره سيقتلون ويخطفون 1400 إسرائيلي؛ كما لم يقدّروا أن الرد الإسرائيلي سيكون فتاكاً إلى هذا الحد، وسيؤدي إلى تدمير أغلبية القدرات العسكرية للحركة، وإلى دمار نحو 79% من المباني في غزة، ونزوح نحو مليون وربع المليون من السكان عن منازلهم. بينما يخوض حزب الله معركة محسوبة، بعكس “حماس” وسلوكها، وامتنع من المخاطرة بقوة الرضوان، وحافظ عليها في حال نشوب حرب شاملة.
هناك أصوات كثيرة في إسرائيل، سواء وسط الجمهور، أو الجيش الإسرائيلي، أو الحكومة، تعتقد أن لا مفرّ لإسرائيل من مهاجمة لبنان عندما تنتهي الحرب في غزة. ويؤيد هذا التوجه القتالي نتنياهو وغالانت ووزراء أحزاب اليمين. ويعارضه عدد من كبار المسؤولين في المؤسسة الأمنية، الحاليين والسابقين (غيورا إيلاند، الذي تحول إلى داعية للحرب، هو من الأصوات القليلة في المؤسسة الأمنية التي تدعو إلى مهاجمة لبنان). وبين المعارضين الوزيران بني غانتس وغادي أيزنكوت اللذان منعا، في الأيام الأولى من نشوب الحرب في غزة، قراراً لكابينيت الحرب يطلب من سلاح الجو القيام بهجوم واسع على لبنان. وفي الواقع، إن موقف نتنياهو وغالانت أكثر تعقيداً. لقد صاغه بصورة جيدة رئيس مجلس الأمن القومي تساحي هنغبي الذي قال إن إسرائيل تفضل حلاً سياسياً لِما يحدث في لبنان، يمكن التوصل إليه على مراحل. الخطوة الأولى، انسحاب قوات حزب الله إلى مسافة 10 كلم من الحدود، كي لا تكون مستوطنات الشمال عرضة لتهديد الصواريخ المضادة للدروع. لاحقاً، تطبيق القرار 1701 الذي أنهى حرب لبنان الثانية، حرب تموز/ يوليو 2006.
لقد نصّ القرار على أنه مع إعلان وقف إطلاق النار، تنتشر في الجنوب اللبناني قوة مؤلفة من 15 ألف جندي من اليونيفيل تمنع وجود مسلحين، باستثناء الجيش اللبناني، ويجري نزع سلاح كل الميليشيات في لبنان، ويُمنع تهريب السلاح إلى حزب الله. عملياً، جرى تطبيق جزء من القرار، والحفاظ على وقف إطلاق النار طوال 17 عاماً، حتى 7 تشرين الأول/ أكتوبر. كما انتشرت قوات اليونيفيل في المنطقة، لكنها امتنعت من الدخول في مواجهة مع مسلحي حزب الله، واستمر تهريب السلاح من إيران إلى حزب الله، عبر سورية. لكن إسرائيل أيضاً لم تلتزم بالقرار، وانتهكت السيادة اللبنانية، وواصلت طلعاتها الجوية للتصوير فوق لبنان.
سيناريو مرعب
كل مَن لديه معرفة بالخطط الحربية للجيش الإسرائيلي، ولو كانت قليلة، يعرف أن الجيش قادر على إلحاق ضرر كبير، ليس فقط بحزب الله، بل بلبنان كله. لقد قال غالانت إن الهجمات الأخيرة لإسرائيل تساوي واحداً من 10، أي أنها لا شيء، مقارنةً بما يمكن أن يحدث في المستقبل. وسابقاً، وبعد حرب لبنان الثانية، تحدّث عن إمكان “إعادة لبنان إلى العصر الحجري”، إذا نشبت حرب جديدة.
في حال نشوب حرب إسرائيلية استباقية، يمكن الافتراض أنها ستنشب من أجل ضرب أكبر عدد من مخازن الصواريخ البعيدة المدى والقيادات، ومراكز السيطرة والاتصال. هذا ما جرى في حرب لبنان الثانية، عندما جرى تدمير مخازن الصواريخ البعيدة المدى التي يمكن أن تصل إلى تل أبيب (والتي كانت حينها بالعشرات) في ضربة استهلالية استغرقت 39 دقيقة، واستندت إلى معلومات استخباراتية دقيقة للموساد والاستخبارات العسكرية أمان.
في الحرب المقبلة، سيقوم سلاح الجو بتدمير المطارات المدنية والعسكرية كلها، والجسور والموانىء، ومحطات توليد الطاقة، وبنى تحتية استراتيجية أُخرى. وسيجري فرض حصار بحري، وسينزح ملايين اللبنانيين عن مدنهم. سلاح البرّ الإسرائيلي، وبعكس نبؤات الغضب ليتسحاق بريك [الذي حذّر دائماً من عدم جاهزية سلاح البرّ للحرب] يعرف كيف يتصرف في الأماكن الكثيفة سكانياً مثل غزة، سيقوم بمناورة برية طويلة الأمد في مناطق عديدة في لبنان، وسيدمر كل ما يعترض طريقه. بالإضافة إلى ذلك، ستُشن حرب سيبرانية متطورة تضرب كل البنى التحتية للحواسيب والكابلات والاتصالات في لبنان.
لكن التدمير سيكون متبادلاً. في السنوات الأخيرة، شاركت في عدد من الإحاطات لرؤساء الأركان ورؤساء أمان وقادة الجبهة الداخلية، لقد رسموا صورة مخيفة للدمار الذي يمكن أن يزرعه حزب الله في إسرائيل. لدى التنظيم الشيعي ما بين 120 و150 ألف قذيفة وصاروخ من كل الأنواع، وهي قادرة على الوصول إلى أي نقطة في إسرائيل، بما فيها إيلات. بضعة آلاف من هذه الصواريخ هي صواريخ دقيقة، وهو ما يعني أن إسرائيل فشلت في منع مشروع حزب الله المتعلق بـ”الصواريخ الدقيقة”. على الرغم من الهجمات التي شنّها سلاح الجو الإسرائيلي ضد قوافل الشاحنات القادمة من إيران، عبر العراق وسورية. كما قصف مخازن في مطار دمشق ومدن أُخرى في سورية خُزّنت فيها أجهزة GPS. هذه الصواريخ الدقيقة و”الذكية”، وأيضاً الصواريخ “الغبية”، ستوجَّه إلى كل مطار في إسرائيل، مدنياً كان أم عسكرياً، وإلى الكرياه [مركز قيادة هيئة الأركان العامة للجيشٍ] في تل أبيب، وإلى محطات الطاقة في حيفا وعسقلان، وإلى السكك الحديدية، وإلى المنشآت الصناعية في بئر السبع، والمفاعلات النووية في سوروك وديمونا، وإلى كل موقع مهم تقريباً. وعندما تتعرض المدن الإسرائيلية لسقوط الآلاف من الصواريخ، فستدمّر آلاف المباني. وبحسب سيناريوهات قيادة الجبهة الداخلية، سيجري إجلاء مئات الآلاف من السكان الإسرائيليين إلى الفنادق والملاعب والخيام.
وستتحول الحرب ضد حزب الله إلى حرب متعددة الجبهات. وستُطلق الصواريخ من سورية، ومن العراق واليمن، وربما من إيران. وثمة خطر كبير في أن تشتعل الضفة الغربية، وستجد إسرائيل نفسها في حرب لم تشهدها من ذي قبل، إلى حد أنه ليس من المستبعد أن يكون هناك في إسرائيل مَن يفكر في اتخاذ خطوة استراتيجية لم تخطر في البال. يتعين على إسرائيل الأخذ في الاعتبار أن حرباً طويلة الأمد على عدة جبهات ستؤدي إلى صعوبات في التزود بالغذاء والعتاد. وستؤدي إلى تقويض العلاقات مع الحلفاء، وعلى رأسهم الولايات المتحدة التي أقل ما يقال عنها أنها تشعر بالغضب إزاء سلوك حكومة نتنياهو.
سيناريو الرعب هذا هو تجسيد للتدمير المتبادل الأكيد، لذلك، يجب فعل كل شيء للحؤول دون حدوثه. وهذا ممكن فقط من خلال ترتيبات دولية شاملة، بمشاركة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والسعودية والإمارات ودول عربية معتدلة. والبداية يمكن أن تكون بالتوصل إلى اتفاق لتحرير المخطوفين الذين يتدهور وضعهم يوماً بعد يوم، ووقف إطلاق النار في غزة الذي سيؤدي إلى سلسلة ردود تهدئة في المنطقة، ولاحقاً، تحريك المفاوضات مع الفلسطينيين في غزة، وخصوصاً في الضفة. لكن حكومة نتنياهو ليست مستعجلة، ولا رغبة لديها في البدء، ولو بخطوة صغيرة، ضمن المسار الوحيد المعقول القادر على منع الخطر الذي يهدد وجود الدولة.