قصي الحسين
أتحدث عن لبنان، عن الجمهورية اللبنانية التي كانت في الخمسينيات والستينيات من القرن العشرين، تملأ الدنيا وتشغل الناس، عن جمهورية لبنان اليوم، بلا جمهورية، بلا جمهور. هل تصدقون؟.. نعم. إنها من نوع الجمهوريات التي تعيش على أمجاد الماضي السحيق، مثل جمهورية أثينا، مثل قلعة بعلبك، مثل مدينة تدمر، مثل قلعة عنجر، مثل دار الندوة، مثل أسواق العرب، أو مثل سوق عكاظ.
الجمهورية اللبنانية اليوم، مثل جمهورية هجر. نعم، تفككت أعمدتها، وطار سقفها، وتهدّمت أبنيتها، وتشلّعت أركانها، تحطمت منذ زلزالها السياسي في العام 2005، صارت جدرانها تتساقط شيئا فشيئا، وآلت جميعها إلى الهدم، آلت إلى ركام.
الجمهورية اللبنانية اليوم، تعيش منذ عشرين عاما، أسوأ أيامها. كل شيء فيها إلى تساقط، إلى فراغ. بلغ الفراغ فيها الذروة، صار هرما من أهرامات الجيزة في لبنان. صارت الدولة مهلهلة، كأنها تستعير أثوابها، تستر بدنها، عن عيون العالم حتى تخفي عوراتها، وتأكل من الأرواث، حتى تسد جوعها، وتشرب من مجارير الدول المانحة، التي صارت كل ما تبقّى لها، تنتفض بين الحين والآخر، كمن أصابه مس، ولا تدري بحالها، لا تدري كيف تسير، ولا تعرف الغلوة التي تنشدها، والتي هي منتهى غاياتها.
جمهورية، تأكل بدنها الحشرات الطفيلية من الخارج، وتضربها الفيروسات القاتلة من الداخل، تراها تلهث ليل نهار، من شدة الإعياء، من شدة الغثيان، ولا حول لها ولا قوة. الجمهورية اللبنانية، هذه حالها اليوم، تعيش كل أمراضها تحت ضوء الشمس، تحت المطر، تحت العاصفة. تلطمها الأنواء من بعيد، وتشتد عليها، فتبيّن كل عوراتها دفعة واحدة، تزحف على بطنها، تتقلب على ظهرها، تدسّ رأسها في الرمل، تغطي ضوء الشمس بالكف، وتحرك أرجلها، تنتفض بين الحين والآخر، حتى لا تقطع لها شهادة وفاة من القيّمين على حياتها، يريدون أن تظل في الذروة من عذابها، يريدون أن يعترف أهلها، أمام أنظار العالم، أنهم باؤوا بها، أنهم لم يحافظوا عليها، أنهم لا يستحقونها، ولا يستحقون شرف الإنتماء إليها. يريدون أن يسمعوا إعترافاتهم بالجريمة التي إرتكبوها، وهم لا زالوا يلهون بجثتها، ويملؤون ساحاتها، بالتماثيل، بالأنصاب، بالفراغ.
جمهورية الفراغ، هي اليوم، جمهورية لبنان، الجمهورية اللبنانية، لم يعد لها ما يصفها، ولم يعد فيها ما توصف به. صارت دارا مشلعة مهجورة، فيها بعض الجرذان والفئران والأفاعي، التي تساقطت من فمها أنيابها. صارت تعض نفسها، صارت تنهش أطرافها، صارت تقرقط ما تبقّى من أذيالها.
تساقط فيها دستورها، فتكت به طوائفها، وجعلته على مقاسها، جعلته كما ترغبه دستورا بلا دستور، بلا مواد، بلا أحكام، بلا سيرة، بلا مسيرة، بلا بلاد صالحة لتطبيقه فيها.
أين القوانين التي سنّها المشرعون ليعيش اللبنانيون تحت سقفها، تستل من الأدراج المهترئة، للإنتقام من الخصوم. «للحط على عينهم»، لإيذائهم، لإقصائهم، لترهيبهم، لجعلهم ينصاعون فورا، ويدخلون إلى عالم الحظيرة.
أين الأنظمة المرعية الإجراء، بل أين النظام العام الذي ينتظم البلاد؟ بل أين هياكل الدولة؟ أين ملاكاتها؟ أين أجهزتها؟ أين رؤساء الأجهزة؟ أين قطاعات الدولة؟ أين المدراء العامون؟ أين الإدارات؟ صارت جميعها في خبر كان…
جمهورية لبنان، بلا رأس، بلا رئيس. ليس منذ عام أو عامين، بل منذ زمان بعيد، منذ تخلّى شعبها عن إرادة الجمهورية للغربان، للغرباء، للأوصياء، للأقرباء، لقطاع الطرق، لتجار الهيكل، لباعة الأوثان، لباعة الأوطان.
رئيس الجمهورية، لم يأتِ منذ تاريخ بعيد، من الباب العريض. كان ينزل مثل المهرج من «داخون» الجمهورية، ويفاجئ الناس، يفاجئ الأطفال. رئيس الجمهورية، لم يكن في يوم من الأيام، بطلا من الأبطال، كان من نوع «السحالى» التي تتقلب في ألوانها، بحسب ما تشتهي الجدران.
كذا، كانت الجمهورية، مسلوبة الإرادة، لا تستطيع أن تهز العصا للعصاة الذين يناورون على نهبها، على كرامتها، على إدارتها، على سياستها، على إنتظام الحكم والإدارة وسير الأعمال فيها، جمهورية فرغت خزائنها من لقمة العيش، وفرغت مجالسها، من كرامة الإنسان.
نعم الجمهورية اللبنانية، هي جمهورية الفراغ، ولهذا كل شيء يتساقط فيها على مهل، لأنها أفرغت، في الأساس، من روحها.
اللواء