مع نهاية الشهر الثاني منذ بدء حرب الإبادة الصهيونية على قطاع غزة، وبعد أن تعدّى عدد ضحايا العدوان 24.000 بين قتلى معروفين وآخرين ما زالت جثثهم تحت الأنقاض، وناهز عدد المصابين 40.000، منهم نسبة كبيرة من المصابين إصابات خطيرة ومن المعاقين مدى الحياة، وبعد أن هدَم القصف الجنوني الذي ينفذّه جيش احتلال فلسطين وإبادة شعبها، الملقّب زوراً بجيش «الدفاع عن إسرائيل» هدَم أكثر من 100.000 من مباني القطاع خلال سبعة أسابيع وصولاً إلى أسبوع الهدنة، وقد باشر الآن بتدمير ما تبقى منتقلاً من تركيز عدوانه على شمال القطاع إلى التركيز على جنوبه، بعد هذه الكارثة العظيمة التي تسير على درب استكمال نكبة عام 1948 بنكبة أخطر وأكثر شراسة من كل ما سبق، وهذا بالتزامن مع تصاعد القتل والتنكيل الصهيونيين في الضفة الغربية، لا بد من وقفة تأملية لنستنبط ما دار في عقل الذين دبّروا عملية «طوفان الأقصى» من حساب كي يشرعوا في تنفيذها، ذلك أنه كان ممكناً توقع ما سوف يحصل بنتيجتها (أنظر «طوفان الأقصى ينذر بأن يجرف غزة» 10/10/2023).
فثمة احتمالان أقصيان إزاء ما حصل: إما أن الذين دبّروا العملية كانوا مدركين أنها سوف تجرّ مثل الكارثة التي جرّتها حتى الآن، وهي لا تزال مستمرة، ولم يبالوا للأمر، أو أنهم أخطأوا الحساب. في الحقيقة، فإن الإجابة الثانية هي الأقرب إلى الواقع، وذلك في بُعدين رئيسيين: أولهما أن المخططين لعملية «طوفان الأقصى» لم يدركوا خطورة اكتمال التحول إلى أقصى اليمين في المجتمع الإسرائيلي، متجسداً في حكومة شملت كامل طيف اليمين الصهيوني الفاشي من حزب الليكود إلى الحزب «القومي-الديني» وحزب «العظمة اليهودية» بحيث إن التفاعل بين هذا الواقع السياسي وخطورة عملية السابع من أكتوبر/ تشرين الأول، التي فاقت كل العمليات العسكرية التي نفّذتها المقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال، حتّم أن يتعدّى ردّ الفعل الإسرائيلي بدوره كل ما سبق للجيش الصهيوني أن نفّذه من اعتداءات على غزة، وأن ينتهز أقصى اليمين الصهيوني فرصة الصدمة الكبرى كي يشرع في تنفيذ مخططه لتحقيق «إسرائيل الكبرى» بمحو ما تبقى من فلسطين وإبادة شعبها قتلاً وتهجيراً، بادئاً بقطاع غزة.
أما الخطأ الثاني في الحساب، فكان في إسقاط الرغبات على الواقع وتوقّع المعجزات الإلهية، كأن تفجّر عملية «طوفان الأقصى» حرباً شاملة على دولة إسرائيل يتجنّد فيها كافة الفلسطينيين أينما كانوا والعرب والمسلمين، كل ذلك بالمنطق الديني الذي يميّز «حركة المقاومة الإسلامية» (حماس) والتيار الذي تنتمي إليه. وقد جاء أفصح تعبير عن هذا التصوّر في الرسالة الصوتية التي أدلى بها محمد الضيف، القائد العام لـ«كتائب عز الدين القسام» جناح الحركة المسلّح، صبيحة العملية. وما جاء في رسالة الضيف غني عن التعليق، فمما قاله، بعد وصفه للجرائم التي ترتكبها الدولة الصهيونية، الكلام الآتي: «قررنا أن نضع حداً لكل ذلك بعون الله ليفهم العدو أنه قد انتهى الوقت الذي يعربد فيه دون محاسب… مجاهدونا الأبرار، هذا يومكم لتُفهموا هذا العدو المجرم أنه قد انتهى زمنه… قاتلوا، والملائكة سيقاتلون معكم مردفين، وسيمددكم الله الملائكة مسوّمين، وسيوفي الله بوعده لكم… يا شبابنا في الضفة الغربية، يا كل أهلنا على اختلاف تنظيماتكم، اليوم يومكم لتكنّسوا هذا المحتل ومستوطناته عن كل أرضنا في الضفة الغربية ولتجعلوه يدفع ثمن جرائمه طيلة السنوات العجاف الطوال… يا أهلنا في القدس، هبّوا لنصرة أقصاكم واطردوا قوات الاحتلال والمستوطنين من قدسكم واهدموا الجدران العازلة. يا أهلنا في الداخل المحتل، في النقب والجليل والمثلث، في يافا وحيفا وعكا واللد والرملة، أشعلوا الأرض لهيباً تحت أقدام المحتلين الغاصبين، قتلاً وحرقاً وتدميراً وإغلاقاً للطرقات»… «يا إخواننا في المقاومة الإسلامية، في لبنان وإيران واليمن والعراق وسوريا، هذا هو اليوم الذي تلتحم فيه مقاومتكم مع أهلكم في فلسطين ليفهم هذا المحتل الرعديد أنه قد انتهى الزمن الذي يعربد فيه ويغتال العلماء والقادة، قد انتهى زمن نهب ثرواتكم، قد انتهى القصف شبه اليومي في سوريا والعراق، قد انتهى زمن تقسيم الأمة وبعثرة قواتها في صراعات داخلية، وآن الأوان أن تتحد كل القوى العربية والإسلامية لكنس هذا الاحتلال عن مقدساتنا وأرضنا». «اليوم، اليوم، كل من عنده بندقية فليخرجها فهذا أوانها، ومن ليس عنده بندقية فليخرج بساطوره أو بلطته أو فأسه أو زجاجته الحارقة، بشاحنته أو جرافته أو سيارته… هذا يوم الثورة الكبرى من أجل إنهاء الاحتلال الأخير ونظام الفصل العنصري الأخير في العالم. أيها الصالحون والصالحات، يا صفوة الحفّاظ، يا حفظة كتاب الله، أيها العابدون الصائمون القائمون، الراكعون الساجدون، اجتمعوا في مساجدكم وأماكن عبادتكم وارجعوا إلى الله وألحّوا عليه أن ينزّل علينا مصرعَهم وأن يمدّنا بملائكته موثقين وأن يحقق بنا أمالكم بالصلاة في الأقصى محرراً»…
وقد وصلنا إلى حالة بتنا فيها نتمنى أن تفلح المقاومة المسلحة ويفلح الضغط الدولي في وقف العدوان والإبادة، وأن يحولا دون أن تستولي الدولة الصهيونية على غزة بأكملها محطةً نحو استيلائها على كامل التراب الفلسطيني.
القدس العربي