فيلم للممثلة الإيرانية زهرة أمير إبراهيمي والمخرج الإسرائيلي غاي ناتيف، صنع مفاجأة في الدورة الثمانين من مهرجان البندقية السينمائي (حتى 9 سبتمبر / أيلول). إبراهيمي وناتيف تعاونا معاً لاخراج “تاتامي” المعروض في مسابقة “أوريزونتي”، والنتيجة مذهلة على المستويات كافة، المستوى السينمائي والسياسي والإنساني.
تجري الأحداث في عالم الفنون القتالية، وتدور على فتاتين إيرانيتين: لاعبة الجودو ليلى (أريان ماندي) ومدربتها مريم (تلعب الدور المخرجة). تشارك ليلى في بطولة العالم للجودو ونراها تفوز، مباراة تلو اخرى، مما سيضعها قريباً في مواجهة مع لاعبة اسرائيلية. ولكن يحصل ما يقلب الأحداث رأساً على عقب ويُدخل الفتاتين في دوامة لا فكاك منها: تتلقى المدربة خلال إحدى المباريات في جورجيا اتصالاً من السلطات الإيرانية يطلب منها انسحاب ليلى من البطولة والتظاهر بأنها مصابة بجروج، هذا كي لا تتواجه مع اللاعبة الإسرائيلية، والا أُعلِنت رسمياً عدواً للجمهورية الإسلامية. في البدء، ترفض المدربة هذا القرار الذي يأتي مباشرة من المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، ولكن تدريجاً تذعن له، خصوصاً أن كل اتصال جديد يحمل معه مقداراً أكبر من التهديد والوعيد، لها ولعائلتها ولمحيطها.
ما ليلى، فتقرر المواجهة والذهاب إلى النهاية في تحقيق حلمها، مخالفة تعليمات مدربتها، وعلى الرغم من المضايقات الكثيرة التي تتعرض لها عائلتها، والفيديوهات التي تصلها على هاتفها المحمول لوالدها المحتجز عن وجع راس لإيران لا بد من أن تذكرنا هذه الحكاية بلاعب الجودو الإيراني سعيد مولاي الذي قامت منغوليا بتجنسيه، وصار يمثلها في المحافل الدولية بعدما تلقى أوامر من طهران بخسارة مباراة كان يشارك فيها على نحو متعمد، لتجنب مواجهة لاعب إسرائيلي، مما جعله يرفض العودة إلى بلاده، خشية على حياته بعد هذا الحادث الذي وقع أثناء مشاركته في بطولة العالم للجودو في اليابان عام 2019. وأوقف الاتحاد الدولي للجودو إيران، التي تعتبر إسرائيل عدواً لدوداً، بسبب الحادثة. ما نراه في الفيلم هو إلى حد كبير حكاية هذا اللاعب، ولكن بدا أكثر إغراء تحويل سعيد إلى ليلى، لكون المرأة هي الضحية الأولى لهذا النظام وهاجس المهرجانات هذه الأيام. لكن لا بأس، فالحكاية هذه فعلاً أفضل من بطولة امرأة.
تبرع الممثلة الأميركية أريان ماندي، وهي من أصول إيرانية تشيلية، في دور ليلى، وكأنها سبق أن عاشت التجربة بتفاصيلها، فلا نصدق للحظة أنها ما تلعبه هو شخصية خلعتها عندما انتهى التصوير.
هذا اول فيلم سينمائي مصنوع بتعاون بين إسرائيلي وإيرانية، وهذا في ذاته حدث كبير وعلى الأرجح انه سيكون مادة اعلامية دسمة في الأيام القادمة، مسبباً وجع رأس جديد لنظام الملالي في إيران.
“تاتامي” هو ثاني فيلم لغاي ناتيف هذا العام، فهو قدم في مهرجان برلين الماضي، شريطه “غولدا” عن رئيسة الوزراء الإسرائيلية غولدا مائير وما عاشته خلال حرب الغفران. لكن عمله هنا مختلف تماماً، ويعطي الانطباع بأنه ذو موازنة محدودة، حيث لا نجوم ولا إمكانات كبيرة، ولكن فكرة لافتة تكفي للمضي بالمشروع. أما إبراهيمي، شريكته في الإخراج، فهي الممثلة الإيرانية التي تحمل الجنسية الفرنسية ولعبت في عدد من الأفلام الإيرانية ولفتت الأنظار مع فوزها بجائزة التمثيل في مهرجان “كان” 2022 عن دورها في “عنكبوت مقدس” للإيراني السويدي علي عباسي، جاعلةً منها أول ايرانية تفوز بها. لكن لم يمر هذا الفوز بخير، إذ نشر القسم السينمائي في وزارة الثقافة الإيرانية بياناً دان فيه نيلها الجائزة معتبراً إياها “قراراً مهيناً ومسيساً”، ومهدداً أي شخص عمل في الفيلم بالعقاب. إبراهيمي عادت وصرحت بأنها تلقت نحو 200 رسالة تهديد مذ مثلت في هذا الفيلم.
الجملة الأخيرة كافية لنفهم لماذا أرادت هذه الأربعينية “التورط” في عمل جديد يدين النظام الإيراني. “الجريمة” أكبر هذه المرة، فهي لا تنجز فيلماً يفضح ممارسات هذا النظام فحسب، بل تتعاون مع إسرائيلي لانجازه. لكن ابراهيمي تحمل رسالة وهدفاً ساميين مما يجعلها أقوى، وتعبّر عنهما بوضوح في كلمة نشرتها في الملف الصحافي: “القصة التي اردنا قولها هي قصة رياضيين إيرانيين خسروا فرصة حياتهم، واضطروا احياناً إلى مغادرة بلادهم بعيداً من احبائهم، بسبب الصراع القائم بين الأنظمة والحكومات. أردت لهذا التعاون مع غاي ناتيف ان يكون تحية لهم، بعيداً من هيجان الكراهية المتبادلة”.
هناك عدد لا يحصى من الأسباب التي ستجعل السلطات الإيرانية تحارب الفيلم بشراسة: النحو الذي يصور فيه المرأة الإيرانية، أول هذه الأسباب. لعل هذه من المرات النادرة التي نرى فيها المرأة الإيرانية سافرة، بلا حجاب يغطي شعرها، بل أن ثمة مشاهد حميمة بين ليلى وزوجها في الفراش. وهذا كله دليل على مدى تقدمية هذا الفيلم الذي يحدث قطيعة مع السينما الإيرانية المصوَّرة داخل إيران التي تمنع مخرجيه من تصوير نساء سافرات حتى وهن داخل بيوتهن.
سينمائياً، هذا عمل مشغول بحرفية عالية لكن لا يتباهى بذلك، ويصعب إيجاد دعسة ناقصة فيه. فمن اللحظة الأولى حتى الختام، يدق قلب المُشاهد بالتزامن مع ايقاع الأحداث المتلاحقة التي تُختصر بالصراع بين مَن يسعى إلى الحرية، ومن اعتاد القمع وفرض عقيدته من دون أن يرف له جفن. معظم الفيلم يدور على الحلبة وملحقاتها، لكنه يعرف كيف يجدد نفسه من دون أن نشعر بالتكرار رغم محدودية الحبكة. أما مَشاهد القتال التي تتكرر ولو مع معنى اضافي في كل مرة، فيطرح سؤال البطولة ويفككها. ماذا يعني الفوز الفردي عندما يكون المجتمع الذي ننتمي اليه مكبّل اليدين ورهينة نظام فاشي؟ وهل الخلاص فردي أو جماعي؟ أيهما أولوية، العيش بأمان أو العيش بحرية؟ كل هذا خطر على الأرجح في مخيلة ليلى، اللاعبة الحرة المثابرة، التي سئمت القمع وقررت لأول مرة المواجهة لا الإستسلام، ولو كان ذلك على حساب سلامة أهلها ونفيها من بلادها.