في الثامن من تشرين الأول 2023، انضم “حزب الله” الى حرب “طوفان الأقصى”. جاء هذا القرار في ضوء إعلان الحكومة الإسرائيلية حرب “السيوف الحديدية” على قطاع غزة. وحتى الثالث من تشرين الثاني بقي “حزب الله” صامتًا. لم يعلن رسميًّا عن المدى الذي يمكن أن يذهب إليه في ما سبق أن أقدم عليه، وسط مخاوف كبيرة، محلية وإقليمية ودولية، من إمكان أن يفكر في التفاعل مع هجوم بري إسرائيلي داخل غزة، بتحويل “المناوشات” الحدودية الى حرب واسعة. وحين أطلّ أمينه العام حسن نصرالله، في ذاك اليوم، للمرة الأولى، تصرّف كما لو كان هو الذي يُمسك بقدر إسرائيل والإقليم، فأبقى كل الإحتمالات، بخصوص مستقبل الجبهة اللبنانية، واردة، رابطًا ما يمكن أن يأتي بخفض أو عدم تخفيض العدوان على غزة!
على مدى أشهر كثيرة، سعى الوسطاء الى “إخماد” الجبهة اللبنانية، ولكنّ “حزب الله” ثابر على رفض البحث في هذا الأمر، قبل وقف إطلاق النار في غزة، على الرغم من أنّ ضغط الجبهة اللبنانية لم يترك أيّ أثر على مخططات إسرائيل في الإقليم الفلسطيني.
وأعطت إسرائيل هؤلاء الوسطاء أوراق قوة، من أجل إقناع “حزب الله” بالتراجع، إذ كانت كلّما تقدم جيشها خطوة في غزة، ترفع مستوى المواجهة على الحدود الشمالية، نقطة. لكن عبثًا حاول الوسطاء، ولا سيما منهم الأميركي آموس هوكشتاين، تفسير أبعاد هذه “الديناميكية الإسرائيلية الخطرة للغاية” التي تُضمر مخططًا تعمل عليه القيادة الشمالية في الجيش الإسرائيلي مع كل الأجهزة الأمنية والمخابراتية. في مواجهة هؤلاء، أصرّ “حزب الله” على التعامل معهم باستخفاف وصل، في كثير من الأحيان الى مستوى “الصلف”. كان قادة الحزب يرمون وراءهم ما ينقله الوسطاء، على قاعدة أنّ هؤلاء يهوّلون. لم ينتبه الحزب الى أنّه فقد “زمام المبادة”، فبعدما كان هو الطرف الذي يلوّح بتوسيع المواجهات مع إسرائيل، أصبحت إسرائيل الطرف الذي يهدد بشن حرب!
وكان ما كان!
ما الذي أوصل “حزب الله” إلى هنا؟ هل هو قرار ذاتي؟ أم أنّ إيران كانت هي التي تتحكم بدفة الأمور، من ألفها الى يائها؟
دعونا نرى ما حصل من تطورات على مدى الأيّام القليلة الماضية، ففي تفاصيلها تكمن أجوبة كثيرة.
حاليًا، يتولى نائب الأمين العام ل”حزب الله” الشيخ نعيم قاسم تحديد “الموقف الرسمي”. ظاهريًا، لا يوجد من هو أرفع منه في هرمية الحزب. ولهذا يمكن اعتبار ما ينطق به مستندًا.
في الكلمة التي ألقاها، الثلاثاء، في الذكرى السنوية الأولى لانضمام “حزب الله” الى حرب “طوفان الأقصى” كشف ما كانت عليه تقديرات “جبهة المقاومة” لهذه الحرب. كان الجميع يعتقدون بأنّها لن تستغرق أكثر من شهر واحد. وقال قاسم:” لولا هذا الدعم الأميركي - الغربي لتوقفت الحرب خلال شهر، لأن إسرائيل ليست قادرة على مواجهة هذه المقاومة”.
إذاً، كانت تقديرات “حزب الله”، وبغض النظر عن مهلة الشهر “القاسمية”، ترتكز على أنّ إسرائيل لن تتمكن، لأسباب داخلية وخارجية، من إطالة أمد الحرب، وهي يستحيل، في “فترة السماح”، أن تحقق أهدافها المعلنة في غزة، وبالتالي، فإنّ المشاركة في خوض حرب ضدها، سوف يسمح لكل من يشارك فيها، برفع علامة الإنتصار.
في هذا الوقت، كانت إيران تنشط ديبلوماسية التهديد. حسين أمير عبد اللهيان، وزير خارجيتها الذي قضى في تحطم الطائرة الرئاسية الى جانب الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، كان يتنقل حيث أمكنه ذلك، مرددًا رسالة واحدة:” أوقفوا حرب إسرائيل على غزة وإلا فجبهة المقاومة سوف تشعل حربًا شاملة ضدها”. وفي الوقت نفسه، كان مرشد الجمهورية الإسلامية في إيران علي خامنئي يتحكم بمستوى المواجهة تحت عنوان “الصبر الإستراتيجي”. ترجمة هذا الصبر يعني إبقاء إيران خارج الحرب من جهة وإدامة انخراط تنظيمات “جبهة المقاومة” على مستوى “المساندة والمؤازرة” من دون أن تتدحرج نحو حرب مفتوحة.
لم يتصوّر أحد، لا في غزة ولا في حارة حريك ولا في طهران، أنّ إسرائيل سوف تحطم الساعة الرملية التي تحكمت بها في كل حروبها السابقة. ولم يفكروا، لوهلة، أنّ أمام الخطر الوجودي الذي مثله الهجوم على غلاف غزة وتهافت أعداء إسرائيل على فتح الجبهات ضدها في وقت متزامن، سوف تنقلب المعادلات الداخلية، ففي إسرائيل كانت “الثورة البيضاء” ضد محاولات صناعة سلطة ديكتاتورية، وليس ضد وجود دولة إسرائيل. ولم ينتبه هؤلاء الى أنّ المشاكل الغربية مع حليفتهم الإستراتيجية هي على طريقة إدارة الملفات وليس على وجود هذا الحليف، وبالتالي لم يكن ثمة تأثير سلبي لهذا النزاع السياسي على اتفاقيات الدفاع المشترك المعقودة بينها وبينهم. اتفاقيات جعلت إسرائيل عضوًا غير رسمي في “حلف شمال الأطلسي”.
هذه المرة، لم يكن “حزب الله” يجهل ما يمكن أن تقدم عليه إسرائيل، كما كانت عليه حاله في تموز(يوليو) 2006، حين هاجم دورية إسرائيلية وراء الخط الأزرق وخطف منها جنديين وقتل الآخرين. هذه المرة، كان يعرف، ولكنه لم يكن يصدق. بدأ بقراءة سيّئة للحقائق وانتهى غير قادر على التراجع عن تعهداته بربط مصير الجبهة اللبنانية بمصير قطاع غزة، لأنّه إن فصل الجبهتين مُني بهزيمة لا تقتصر أصداؤها على الداخل اللبناني بل ستعم أرجاء العالم الإسلامي بدءًا بغزة، وسوف تحطم الأسطورة التهديدية التي بذلت “الجمهورية الإسلامية في إيران”، الغالي والنفيس، من أجل صياغتها!
راهنًا، يريد “حزب الله” أن يوقف كل ذلك، فهو أدرك، بالملموس، أنّ سوء التقدير الجيو- سياسي ترافق أيضًا مع سوء تقدير مخابراتي- عسكري.
لكنّ “حزب الله”، وكان واضحًا ذلك يوم الثلاثاء، يحمل أدبيات تتمايز عن أدبيات “المقاومة الإسلامية في لبنان”. لم يسبق، في أي وقت مضى أن ألقى المسؤول الأول في “حزب الله” كلمة وعادت وأصدرت “المقاومة الإسلامية في لبنان” بيانًا يحمل المضمون العام نفسه ولكن مع تمايزات في الجوهر. الشيخ نعيم قاسم أعطى رئيس مجلس النواب نبيه بري، بعدما وصفه ب”الأخ الأكبر” قيادة مفاوضات وقف إطلاق النار، في حين أن بيان “المقاومة الإسلامية في لبنان”، جاء ليضع ضوابط لهذا التفويض. وهذا ما يقدم دليلا إضافيا على أنّ “حزب الله” لم يعد، حتى بظاهر الحال، سيّد “المقاومة الإسلامية” التي باتت تعمل، بشكل كامل، تحت سلطة “فيلق القدس”.
إذًا، لقد تدخلت “المقاومة الإسلامية” حتى توضح ما أبقته كلمة من وصفته ب”الشيخ المجاهد” غامضًا ويحتمل التأويل، عندما عهد بمساعي وقف إطلاق النار الى “الأخ الأكبر” (قاسم يمدح بري، من دون إدراك على الأرجح، أنّ هذا التعبير أصبح في القاموس الثقافي السياسي، بفضل جورج أورويل، إهانة).
خشيت هذه المقاومة من أن يُفهم تكليف بري كما لو كان تجاوزًا لخط أحمر رسمه وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، عندما انتدبه المرشد علي خامنئي، لإفهام الجميع في لبنان بالإصرار على ربط ساحتي لبنان وغزة. ولهذا ختمت هذه “المقاومة” بيانها بالآتي:” أمّا لغزّة الحبيبة فنقول، نحن على العهد والوعد ولن نتخلى عن دعمنا وإسنادنا لشعبنا الفلسطيني الصامد في قطاع غزة ومقاومته الباسلة والشريفة، هذه وصيّة سيد شهداء طريق القدس (قده) وهي أمانةٌ في أعناقنا، ونحن أهل الأمانة بإذن الله حتى النفس الأخير”.
وهذا يعني الكثير!