في مثل هذا الصباح، قبل شهر واحد، وفيما كانت إسرائيل غارقة في احتفالات ها، قلبت “حركة حماس” منطقة الشرق الأوسط رأسًا على عقب، بتفيذها ضد غلاف غزّة عملية “لم تخطر” إلّا “على بال” صانعي الألعاب الحربيّة الإلكترونية. وعلى الرغم من ضخامة ما حدث، إلّا أنّ المفاجأة السياسيّة تمثلت في أنّ “حماس” نفسها التي كانت، عبر قطر، قد عقدت تفاهمًا مع إسرائيل تحت عنوان “الأمن مقابل الإقتصاد” هي المخطط والمنفّذ والمتبنّي، بطريقة بيّنت فيها، ولكن بعد فوات الأوان للقيادات الإسرائيليّة، أنّها قدّمت تحالفها المتجدد مع إيران في “زمن التطبيع”، تحت عنوان “وحدة الساحات”، على كل ما عداه!
ومن دون شك، كانت “حماس” قد أعدّت “الأسباب الموجبة” لتنفيذ العمليّة التي أطلقت عليها وعلى ارتداداتها الحربية المتوقعة اسم “طوفان الأقصى”، إذ إنّ الحكومة الإسرائيليّة التي تحالف فيها بنيامين نتنياهو مع اليمين الصهيوني المتطرّف قد أغضبت الفلسطينيّين والإسرائيليّين والحلفاء على امتداد العالم، بفعل كثرة تحرّشاتها واعتداءاتها وانحرافاتها.
وبعد شهر على عملية “حماس” النوعيّة التي أظهرت، في الأيّام الأولى، إسرائيل كما لو كانت “وحشًا من ورق”، لم يتبيّن ما إذا كانت هذه الحركة المنبثقة من جماعة الأخوان المسلمين في العالم قد توقعت أن تلتف غالبيّة الإسرائيليّين حول الجيش ويسارع حلفاء ال دولة العبرية الى مؤازرتها ودعمها، سياسيًّا ودبلوماسيًّا وإعلاميًّا وعسكريًّا، وفق ما أقدمت عليه الولايات المتحدة الأميركيّة، بعد ساعات قليلة.
كما أنّ الأدلة لم تتراكم بعد، على تثبيت القرائن والمؤشرات التي سمحت لكثيرين بالقول إنّ الدخول الغربي على “خط الردع” قد أحبط ما كان مرسومًا سابقًا بين “حماس” و”محور المقاومة” بقيادة الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، تحت عنوان “وحدة الساحات”، الأمر الذي حصر مساهمات هذا المحور بمحاولة إشغال قسم من الجيش الإسرائيلي وجزء من الدبلوماسيّة الأميركية، وترك غزّة لمصير مأساوي لم تعش مثله، منذ انسحب منها الجيش الإسرائيلي في العام 2007.
إلّا أنّ ما هو واضح بعد مرور شهر كامل على إطلاق “حماس” لحرب “طوفان الأقصى” أن “كتائب القسّام”- الجناح العسكري ل”حركة حماس”، وبكلفة عالية، لا تزال صامدة في مواجهة “السيوف الحديديّة”، وهو الإسم الذي أعطاه الجيش الإسرائيلي لحربه ضد قطاع غزّة، على الرغم من ظهور أنّ أملها في تحقيق انتصار مدوٍ بالنقاط من خلال إيقاف الهجوم الإسرائيلي لمصلحة تحرير الأسرى والتقليل من الخسائر في أرواح الجيش، لا يزال بعيد المنال ومجرّد حلم غال!
لماذا؟
تملك “حماس” ورقتي قوة لا تبدوان فاعلَتين. تتمثّل الورقة الأولى بدخول قوي ل”محور المقاومة” على خط الحرب، بحيث تضطر إسرائيل إلى خوض حرب كبيرة على محاور عدة، ممّا يردعها من جهة ويدفعها الى التفتيش عن مخارج، من جهة أخرى. الدخول العسكري الأميركي على الخط، أفقد هذه الورقة مفاعيلها، فإيران و”أذرعها” ستجد نفسها، في حال وسّعت دروها في الحرب، في مواجهة التصدّي الأميركي، أكثر من الإسرائيلي. أمّا الورقة الثانية فهي ورقة تعاطف الرأي العام الدولي، ولكن أظهرت الحرب على العراق أنّ الحكومات الغربيّة متى اضطرت الى المفاضلة بين الرأي العام والخيار الإستراتيجي، تُهمل الأوّل الذي يخبو مع الوقت، وتُفعّل الثاني.
بالتوازي، فإنّ نقطة ضعف إسرائيل في كافة حروبها الأخيرة تكمن في عدم استعدادها لدفع أثمان بشريّة واقتصاديّة باهظة. هذه المرّة، تخلّت إسرائيل عن هذا النهج، وأبدت قياداتها استعدادًا غير مسبوق لدفع الأثمان الغالية، بما فيها مستقبلها السياسي، في مقابل تحقيق الأهداف التي تتوافق مع مشاعر غالبية الإسرائيليّين الذين هالهم ما حصل في السابع من تشرين الأوّل الماضي، في غلاف غزة، وباتوا على قناعة بأنّهم إذا تهاونوا في الرد، فإنّ ما حصل قبل شهر سوف يتكرر كل شهر!
أكثر من هذا وذاك، فإنّ السلوك الأميركي في المنطقة، وفق ما تُظهره الدبلوماسيّة المكوكيّة لوزير الخارجية أنتوني بلينكن، تُظهر وكأنّ نهاية “حماس” مسألة وقت، لا أكثر ولا أقل، لذلك هو يعمل لإرساء قواعد خاصة بمرحلة ما بعد حكم “حماس” لغزّة، الأمر الذي كان واضحًا في لقائه مع رئيس السلطة الفلسطينينة محمود عبّاس، في رام الله، قبل أيّام.
بطبيعة الحال، لا حتميات في السياسة، خصوصًا إذا كانت مرهونة بنتائج الميدان، لكن ما هو ظاهر للعيان، بعد شهر من هجوم “حماس” على غلاف غزّة، أنّ قرار إنهاء سيطرتها على قطاع غزّة ليس مجرّد احتمال بل هو واقع حقيقي يتم العمل، على مختلف الصعد، من أجل تحقيقه.
ويبدو أنّ إسرائيل، هذه المرّة، مستفيدة من التجربة الروسيّة في أوكرانيا، لا تخوض مغامرة ضد الساعة، فهي طلبت ما تحتاج إليه من وقت لإنجاز أهدافها: ثلاثة أشهر للإحتلال، وتسعة أشهر للتنظيف!