"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث
تابعونافلاش نيوز

إسرائيل تُواجه في لاهاي قانونًا "صنعه" عالمان يهوديّان "سحقتهما" القوة

ابراهيم ناصر
الخميس، 11 يناير 2024

إسرائيل تُواجه  في لاهاي قانونًا "صنعه" عالمان يهوديّان "سحقتهما" القوة

في ظلّ مواصلة الحرب الإسرائيلية على غزّة واستمرار القتل الجماعي لسكان القطاع وتدميره وتحويله شيئا فشيئا الى ارض غير قابلة للحياة، تقدّمت دولة جنوب أفريقيا قبل نهاية العام ٢٠٢٣ بأيام قليلة بطلب إلى محكمة العدل الدولية لاتخاذ إجراءات ضد إسرائيل بسبب العمليات العسكرية التي تشنها في قطاع غزة، وطالبت فيه المحكمة بشكل خاص بإصدار أمر عاجل يعلن أن إسرائيل تنتهك التزاماتها بموجب الاتفاقية الدولية لمنع جريمة الإبادة الجماعية لعام ١٩٤٨، في حملتها على حركة حماس. وفي هذا الخصوص أعلنت محكمة العدل الدولية، أنها ستعقد جلسات علنية في الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا على إسرائيل يومي ١١ و١٢ من كانون الثاني الجاري للنظر في الطلب الجنوبي الافريقي( اليوم وغدًا). لم تستخف إسرائيل هذه المرة بمسألة مثولها امام محكمة العدل الدولية كعادتها عندما يتعلق الامر بالقانون الدولي ومؤسساته وهي تتعامل مع هذه المسالة بأقسى درجات الجدية وقد اوفدت الى لاهاي للدفاع عنها أحد اهم خبرائها القانونيين الرئيس السابق للمحكمة العليا في إسرائيل. لكن وبغض النظر عما ستصدره المحكمة من قرارات في هذا الشأن فان الحدث بحد ذاته يضعنا امام مفارقة.

اسمان أساسيان يبرزان في هذا المجال ويعود لهما الفضل في تشكيل عناصر أساسية من القانون الدولي الإنساني المعاصر مع المؤسسات التي ترعاه من محاكم واتفاقيات دولية: هيرش لوترباخت ورفايل ليمكين

لقد بنت الصهيونية مشروعية إقامة دولة قومية لليهود اعتمادا على ما اظهرته التجربة الأوروبية على مدى قرون وصولا الى المانيا النازية من استحالة تمتع اليهود كجماعة بالحياة الآمنة حيث تعرضوا بشكل متكرر للاضطهاد والتهجير ومجازر الإبادة في أوروبا المسيحية ثم العلمانية على حد سواء: في الأولى لأسباب دينية وفي الثانية لأسباب عرقية.

ومع ظهور القانون الدولي الإنساني وتوسعه، إثر الحربين العالميتين لم يكن مفاجئًا ان يكون أكثر الخبراء القانونيين الذين ساهموا في تطوير القانون الدولي الإنساني هم من اليهود الأوروبيين. اسمان أساسيان يبرزان في هذا المجال ويعود لهما الفضل في تشكيل عناصر أساسية من القانون الدولي الإنساني المعاصر مع المؤسسات التي ترعاه من محاكم واتفاقيات دولية: هيرش لوترباخت ورفايل ليمكين.

الاثنان ولدا مع ولادة القرن العشرين في بقعة جغرافية من أوروبا الشرقية محاذية للحدود الشرقية لبولندا الحالية نقلتها حروب القرن ونزاعاته بين دول وامبراطوريات عدة. لوترباخ ولد في ضواحي مدينة لفيف في أوكرانيا الحالية وكانت وقتها تابعة للامبراطورية النمساوية الهنغارية فيما ولد ليمكين في قرية من منطقة فولكوفيسك الواقعة حاليا في دولة بيلاروسيا والتي كانت تابعة حينها للامبراطورية الروسية. الاثنان درسا القانون في جامعات لفيف وهي كانت وقتها مدينة جامعية معروفة وبخاصة في مجال القانون. إثر الحرب العالمية الأولى تمددت حدود بولندا شرقا فأصبح الحقوقيان من التابعية البولندية. تدرّج ليمكين في مناصب قانونية حتى وصل الى منصب نائب مدعي عام الدولة. أجبره الاجتياح النازي لبولندا على الفرار واستقر في الولايات المتحدة الأميركية حيث واصل مسارًا مهنيًّا لامعًا في مجال القانون الدولي. اما لوترباخ ففضّل لاستكمال دراسته الانتقال الى فيينا حيث حصل عام ١٩٢٢ على درجة الدكتوراه بعد مناقشة أطروحة كان موضوعها عن عصبة الأمم، وسافر بعدها الى لندن فاستقرّ وعمل هناك حتى وفاته عام ١٩٦٠. في لندن وبعد كتابة أطروحة في القانون الدولي ومناقشتها عام ١٩٢٦ تفرّغ لوترباخ لتدريس القانون وانتخب عام ١٩٣٧ لكرسي القانون الدولي في جامعة كمبريدج المرموقة.

أعمال لوترباخ

تمحورت أبحاث ومنشورات واعمال لوترباخ حول ضرورة حماية القانون الدولي لحقوق الافراد وذلك ضمن مفهوم الجريمة ضد الإنسانية حيث اعتمد نص لوترباخ في تعريف هذه الجريمة الجديدة. عام ١٩٤٢ إنضم لوترباخ في لندن الى لجنة جرائم الحرب وفي العام التالي نشر القراءة الأولى لمشروع ميثاق حقوق الانسان وعام ١٩٤٤ نشر كتابه المرجعي “في سبيل قانون دولي لحقوق الانسان”. إنضم لوترباخ الى فريق المدعي العام البريطاني في محكمة نورمبورغ الخاصة لمحاكمة قادة المانيا النازية ليظهر تأثيره في المطالعات كما في الاحكام وخاصة في ما يتعلق بالاستخدام الرسمي لتهمة الجريمة ضد الإنسانية. فيما بعد لعب لوترباخ دورًا مؤثرًا في النص النهائي للإعلان العالمي لشرعة حقوق الانسان الصادر عام ١٩٤٨ عن الأمم المتحدة. عام ١٩٥٥ انتخب لوترباخ ممثلا لبريطانيا العظمى في محكمة العدل الدولية في لاهاي وبقى في هذا المنصب عشر سنوات حتى وفاته حيث ترك في تلك المؤسسة تأثيرا عميقا ودائما.

ليمكين والجنوسيد

وكرّس ليمكين حياته المهنية في اميركيا في سبيل تجريم القانون الدولي الإنساني للاعتداء على المجموعات البشرية بصفتها هذه ووضع عام ١٩٤٤ كتابه المرجعي “قواعد (دول) المحور في أوروبا المحتلة” حيث ظهر ولأول مرة تعبير “جينوسيد” أي الإبادة الجماعية وقد علّل ليمكين اشتقاقه لهذه الكلمة الجديدة بأنّ لكل مفهوم جديد مفردة جديدة. اختار رئيس الوفد القضائي الأميركي الى محكمة نورمبرغ ليمكين كمستشار له وبهذه الصفة تمكن من إدخال تعبير “الجينوسيد” مرات عدة ضمن مداولات المحاكمات لكن من دون ان تظهر في متن الاحكام.

بعد الحرب ضاعف ليمكين جهوده التي اثمرت عن القرار ٩٦ للهيئة العامة لمنظمة الأمم المتحدة الذي يجرّم الإبادة الجماعية بمفهوم القانون الدولي ولاحقا كان له الفضل الأكبر في اعتماد الهيئة العامة عام ١٩٤٨ لاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها والتي دخلت حيّز التنفيذ في ١٢ كانون الثاني ١٩٥١.

يذكر ان إسرائيل هي من بين الدول الموقعة على هذه الاتفاقية لكنها لم تصادق عليها الى اليوم.

لقد كان لانتماء لوترباخ وليمكين الى الأقلية اليهودية في أوروبا ومعاصرتهما لتعرض أبناء جلدتهما لأنواع الاضطهاد والقتل ومحاولات الإبادة الحافز الأساسي لتكريس حياتهما المهنية من اجل تزويد القانون الدولي بما يلزم من أدوات لحماية الأقليات افرادا ومجموعات في وجه انحرافات الدول والحكام. الأول، لوترباخ بنى مقارباته على ضرورة حماية الفرد في وجه عنف الدول والمجموعات وركّز على معاقبة مرتكبي ما يوصف بالجريمة ضد الإنسانية فيما الثاني، ليمكين اعطى الأولوية لحماية المجموعات البشرية ووجودها عبر معاقبة مرتكبي جرائم الإبادة الجماعية. اما الهدف فكان واحدا ويتمثل بحماية مؤسسات المجتمع الدولي والعدالة الدولية للأقليات افرادا ومجموعات التي غالبا ما تدفع ثمن هشاشتها وضعفها في وقت الازمات ومن بينها طبعا الجاليات اليهودية المنتشرة في العديد من الدول.

عقيدة إسرائيل : ما لا تحصل عليه باستعمال القوة سوف تحصل عليه باستعمال المزيد من القوة

لقد آمن جميع قادة إسرائيل منذ قيامها الى اليوم، ايمانا اعمى بأن حماية دولتهم وتوسعها يعتمدان حصرا على القوة وعلى تفوقها الكاسح في استخدام القوة في مواجهة اعدائها واتبعوا حرفيا المقولة الشديدة الرواج بينهم والقائلة: «ما لا تحصل عليه باستعمال القوة سوف تحصل عليه باستعمال المزيد من القوة”. طبعا يأتي تفوّق القوة العسكرية في المقدمة، ولكن يجب ان يصاحبه أيضا تفوق في التكنولوجيا، والاقتصاد، والمال، والتحالفات. ويقابل هذا الايمان المطلق بمنطق القوة، ازدراء إسرائيلي بالقانون الدولي واستخفاف بمؤسساته ومواثيقه وشعور نرجسي بالإفلات الدائم من العقاب مهما بلغ حجم الارتكابات والذي أثبته حتى اليوم فشل كل المحاولات السابقة لمثول المسؤولين الإسرائيليين امام القضاء الدولي.

الى الآن ما تزال دولة إسرائيل تتمتع بتفوّق واضح في قوتها العسكرية والدبلوماسية في مقابل الفلسطينيين يسمح لها بالاستمرار في مواصلة اذلال هذا الشعب وانكار حقوقه واحتلال ارضه وممارسة سياسة الفصل العنصري عليه وارتكاب أبشع المجازر بحق أبنائه. لكن من الملاحظ أيضا ان زمن الانتصارات الإسرائيلية الكاسحة والسريعة والقليلة الكلفة قد ولّى الى غير رجعة وبان الحصانة الإسرائيلية من العقاب الدولي على الانتهاكات الفاضحة للقانون الدولي في حق الفلسطينيين قد بدأ بالتآكل وبان الرياح بدأت تهب شيئا فشيئا لغير مصلحتها. ان امن دولة اسرائيل وامان سكانها لن يتحققا ما لم يستعد الفلسطيني حقوقه الوطنية الكاملة وما لم يحترم يهود إسرائيل مندرجات القانون الدولي الذي ساهم يهود مثل ليمكين ولوترباخ في وضعه.

المقال السابق
بكين تعتبر أنّ المرشح الأوفر حظًا في تايوان "خطر كبير"
المادة التالية
هوكشتاين في بيروت

ابراهيم ناصر

باحث سياسي واجتماعي

مقالات ذات صلة

نقاش بالصوت والصورة/ التقدم الإسرائيلي البري في جنوب لبنان من النكران الى الإستخفاف

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية