في ظل تصعيد إسرائيل عملياتها ضد “حزب الله” على امتداد لبنان، في سياق ما تسمّيه “فرض اتفاق وقف النار”، قررت حكومتها إرجاء عودة السكان إلى منازلهم في الشمال حتى شباط المقبل. ومع تدخل واشنطن وباريس لحض إسرائيل على وضع حد لعملياتها المتواصلة، كثّف الجيش الإسرائيلي عملياته بقصف وأغار وجرف وهاجم واغتال.
حاول “حزب الله” أن يوقف هذا المسار، بإعطاء معنى للتدخل الدولي، فاستهدف تحت عنوان “لقد أعذر من أنذر” منطقة مفتوحة في مزارع شبعا بصاروخين، فجاءه رد عنيف من الجيش الإسرائيلي، شمل استهداف ثلاثين موقعا، مما أدى الى سقوط عدد كبير من الضحايا.
هذا السلوك الإسرائيلي يثير المخاوف من إمكان عودة الحرب، فبنيامين نتنياهو، من محبذي وقف النار، وليس من معتنقي مبدأ وقف الحرب، إذا لم تنتهِ بانتصار واضح. هذا المبدأ الذي أعلن عنه بخصوص قطاع غزة، هو ما سبق أن ألمح إليه بخصوص لبنان، إذ قال: “أنا وافقت على وقف إطلاق النار، ولكن الحرب يمكن أن تعود بعد فترة قصيرة”.
ماذا تريد إسرائيل، من جرّاء أعمالها هذه؟
المزيد حول هذا الموضوع في نقاش بالصوت والصورة( إنقر/ي هنا)
عمليّاً، لقد شتت قرار وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية الجهود التي كانت تحشدها إدارة الرئيس جو بايدن، لـ”إزعاج” إسرائيل. الوقت الباقي أمام الإدارة الأميركية الحالية لم يعد كافياً لإعادة تجميع ما تشتت، مع تسارع الأيام لدخول الرئيس المنتخب دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. ترامب الذي حاول أن يضع في رصيده اتفاق وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية فتصدت لذلك إدارة بايدن، ونفت أن يكون له أي تأثير في ذلك، الأمر الذي أثار استياء الرئيس المنتخب، وقد تكون إسرائيل في طور استغلاله راهناً!
في هذا الوقت، بدأت مخازن السلاح التابعة للجيش الإسرائيلي تمتلئ، سواء من خلال الصناعة المحلية أو من خلال الشحنات التي سلكت طريقها من الولايات المتحدة الأميركية وغيرها، في اتجاه إسرائيل. وأعادت المخابرات الإسرائيلية الملاءة لـ”بنك الأهداف”، فيما عززت قوات البر تواجدها في المناطق الاستراتيجية في جنوب نهر الليطاني.
في المقابل، ظهرت نقاط ضعف “حزب الله”، فالسكان الذين عادوا إلى مناطقهم، يضغطون حتى لا يتم “تنزيحهم” مرة جديدة، وفيما تضاءلت قدرات الحزب بشكل كبير، توسعت جبهاته، فهو، في وقت مطلوب منه أن يدافع عن وجوده في لبنان، يجد نفسه يخسر كل شيء في سوريا، وبالتالي لقد تشتتت قدراته، أكثر فأكثر، وبات كل تحرك يقوم به مرصوداً و… انتحاريّاً!
وعليه، فإنّ إسرائيل تضع “حزب الله” أمام خيارين: القبول بهزيمة مطلقة مما يضطره إلى التنازل عن فاعلية جناحه العسكري أو العودة إلى الحرب وتكبد ليس المزيد من الخسائر في لبنان فحسب، بل ما تبقى له من نفوذ في سوريا أيضاً، بعدما جرى إخراجه من شمالها على امتداد 250 كيلومتراً بأقل من 36 ساعة فقط.
وتسعى إسرائيل إلى استثمار ما أنجزته، قصداً أو عفواً، لمصلحة فصائل المعارضة السورية المسلحة في شمال سوريا، فغاراتها التي استهدفت مواقع “حزب الله” و”الحرس الثوري الإيراني” و”الجيش السوري” والفصائل العراقية، سواء على مستوى البشر أو الأسلحة أو المطارات العسكرية، في أرياف حلب وحماة واللاذقية، قد أضعفت جميع هؤلاء وشتتتهم، ومكنت الفصائل المعارضة من التقدم القوي.
وفي ذهن إسرائيل، فإنّ عودة الحرب إلى شمال سوريا، من شأنه أن يركز موارد إيران، في أمكنة بعيدة من حدودها ويستنزفها.
ومن الواضح، أن إسرائيل لا تتطلع الى أن تتمدد الفصائل نفسها باتجاه جنوب سوريا، ح يث الحدود مع الأردن من جهة والحدود مع الجولان من جهة أخرى، ولكن التركيز على الشمال، من شأنه أن يُضعف مشاريع اختراق الأردن بالمخدرات والأسلحة التي تصل إلى الضفة الغربية، والتفكير بالتعويض عن خسارة جنوب نهر الليطاني بإنشاء جبهة على حدود الجولان.
وفق ما يتم تأكيده في إسرائيل، فإنّ المخابرات الإسرائيلية لا تنصح بإسقاط نظام الرئيس السوري بشار الأسد، لأنه “عدو ودود”، ولكن لا بد من تأكيد انفصاله عن الخضوع للإرادة الإيرانية، ولذلك، فإنّ إضعاف المعادلة الإيرانية في سوريا يمكن أن يصب، بالنهاية لمصلحة روسيا التي تعتبر من الدول “الصديقة” لإسرائيل ولمصلحة دول الخليج التي تتقاسم، في مكان ما، النظرة نفسها إلى “حزب الله” وأدواره في كل من لبنان وسوريا.
وبناء عليه، فإنّ إسرائيل، وفي حال وجدت أن “حزب الله” يتطلع إلى إعادة تأهيل نفسه، فهي تعطي الإشارات الكافية إلى أنها مستعدة للعودة إلى الحرب، وهذه المرة من موقع أقوى بكثير من ذاك الذي انطلقت منه، فـ”حزب الله” كان جزءاً من “وحدة الساحات”. الآن، هو الأضعف في “أولويات الساحات”!