بعدما قدم “حزب الل ه” استعراضاً لقوته التدميرية، سواء بالكشف عن صور “الهدهد” في حيفا وما قبلها وما بعدها، أم بتوجيه أمينه العام حسن نصر الله التهديدات إلى قبرص، حاول أن يجر إسرائيل إلى صفقة عسكرية جديدة واكبت الحراك الأميركي المتصاعد. صفقة من شأنها أن تؤدي إلى خفض التصعيد على الجبهة الشمالية، من دون أن توقف المناوشات التي سبق أن التزمها الحزب حتى انتهاء الحرب في غزة.
ولم يكتفِ “حزب الله” بتقديم عرض شفوي عبر الوسطاء، بل أعطى أدلة في الميدان، بحيث خفّض استهدافاته بالصواريخ والمسيّرات الانقضاضية شمال إسرائيل، بما يفوق نسبة الخمسين في المئة، وأحجم عن الانتقام، على ما كانت عليه العادة سابقاً، بقتل سلاح الجو الإسرائيلي بغارة على بلدة الخيارة في البقاع الغربي المسؤول في الجماعة الإسلامية أيمن غطمة.
ولكنّ إسرائيل رفضت العرض. تمسكت بمطالبها، واصلت التحشيد لمصلحتها في صفوف الحلفاء، ثابرت على خطط استهداف البنى التحتية التابعة لـ”حزب الله”، لم تتوقف عن مطاردة مقاتليه وتصفيتهم، وعملت على ترسيخ ما سمّته “فايننشال تايمز” البريطانية خطة إقامة “منطقة ميتة” داخل لبنان على الحدود الشماليّة، بعمق وصل، حتى تاريخه، إلى خمسة كيلومترات.
العرض الذي قدمه “حزب الله” إلى إسرائيل لا يتناقض وأهدافه الحقيقية من فتح الجبهة اللبنانية. هو، منذ بدء العملية البريّة في غزة، أقلع عن التهديد بتوسيع الحرب ضد إسرائيل، وأعلن، مراراً وتكراراً، أنّ هدفه يتمحور حول “مشاغلة” جزء من الجيش الإسرائيلي، بحيث لا يتم الاستفراد بالتنظيمات المقاتلة في القطاع الفلسطيني.
ولكنّ إسرائيل، مع الاستعداد للانتقال إلى المرحلة الثالثة من حربها على غزة، وهي مرحلة لا تقوم على الاجتياح، بل على “استثماره”، وبالتالي لا تتطلب منها حشوداً عسكريّة كبيرة ولا ذخائر كثيرة، لم تجد في عرض “حزب الله” ما يغريها، فهي، عملياً، لم تعد تنشد الهدنة، وقد تكبدت ما تكبدته من خسائر مادية وبشرية ومعنوية، بل تتطلع إلى تحقيق مكاسب استراتيجية.
ولم تعد إسرائيل وحيدة في مسعاها هذا. ما خسرته دولياً في غزة، قد تكسب ما يضاعفه في لبنان، حيث أدخل “حزب الله” نفسه في ورطة!
هناك انقسام سياسي كبير في إسرائيل حول “اليوم التالي” في غزة، ولكن هناك “وحدة وطنية” متراصة ضد “حزب الله”. المشكلة في غزة متعددة الأوجه، فهناك ملف استرجاع الأسرى والمخطوفين. وهناك طريقة التعاطي مع هذا القطاع الفلسطيني بعد انتهاء الحرب. ولكن لا يوجد أي عامل انقسام إزاء لبنان، فالهدف المعلن، منذ الأيّام الأولى، بسيط للغاية، ويحظى بالإجماع: إعادة السكان إلى منازلهم في شمال إسرائيل، بعد توفير مناخ آمن لهم لا يعرضهم، في أيّ يوم من الأيّام، لما سبق أن تعرض له “الجنوبيون” من هجوم قاتل!
وما يوحّد إسرائيل في النظرة إلى مستقبل العلاقة مع لبنان، يربك “حزب الله”، فهو جهز لنفسه بنفسه وليمة مسمومة: إمّا أن يقبل بالهزيمة دبلوماسياً أو يجد نفسه في حرب لا يريدها، ولا تفيده إن اضطر إلى خوضها.
وهو في هذه الدوامة وحده:
1- اللبنانيون على تنوّع انتماءاتهم ضده، حتى لو كان صوت كثيرين منهم خافتاً. في آخر مواقفه، رفع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، خلال استقباله أمين سر دولة الفاتيكان الكاردينال بييترو بارولين، صوته في اتجاه مختلف عن الاتجاهات “التسليمية” السابقة، معيداً الاعتبار إلى مفهوم النأي بالنفس عن حروب المنطقة وصراعاتها الوارد في “إعلان بعبدا” الذي يكرهه الحزب، فقال: ”نسعى بكل الوسائل المتاحة لعدم تحويل لبنان ساحة للنزاعات المسلحة انطلاقاً من الجنوب، وتنفيذ القرارات الدولية ذات الصلة، وذلك من أجل وضع حد لأطماع إسرائيل التوسعية، وبالتالي عدم ربط استقرار لبنان ومصالحه بصراعات بالغة التعقيد وحروب لا تنتهي”.
2- المجتمع الدولي يقف ضد هذا الحزب، مع بدء مجلس الأمن الدولي تحضير الأرضية لتمديد ولاية “اليونيفيل” سنة جديدة، عملاً بمقتضيات القرار 1701. قبل أن يوجه “حزب الله” في الثامن من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، ضربة قاسية إلى هذا القرار الأممي، بدا المجتمع الدولي متشدداً في التعاطي مع خروق “حزب الله” ولذلك عمل على تزخيم صلاحيات اليونيفيل. حالياً، سيكون مجلس الأمن أمام خيارات ضيقة: لن يستطيع أن يتجاوز ما فعله “حزب الله”، ولا يمكنه أن يُهمل شروط إسرائيل لإعادتها إلى مستوى “وقف العمليات العدائية”.
3- الجبهة العراقية واليمنية لن تتمكن من مؤازرته بالشكل الذي يطمح إليه، فالولايات المتحدة الأميركية، إن لم تأخذ بالدبلوماسية من “حزب الله” ما تريده لإسرائيل، فسوف تؤازرها ضده بالحرب.
4- الجبهة السورية، لن تكون جبهة مؤازرة لـ”حزب الله”. إسرائيل بكّرت في وضع النظام السوري ضمن قائمة الأهداف، باعتبار أنّ أيّ حرب ضد “حزب الله” تفترض محاصرة النظام السوري، حتى لا يُسمح له بأن يكون “حديقة خلفية” للحزب، على مستوى التزوّد بالسلاح والمقاتلين.
5- الجبهات الفلسطينية على اختلافها، لن تستطيع أن تقدم لجبهة لبنان، أكثر مما قدمت لنفسها، وبالتالي، فهي تقاتل من أجل أهدافها، لا أكثر ولا أقل.
6- إنّ الدخول الإيراني على خط دعم “حزب الله” - ولو كان احتماله ضئيلاً على ما أثبتت التجارب الكثيرة - فسوف يست دعي تدخل الولايات المتحدة الأميركية وحلفاءها، وبالتالي سيكون، والحالة هذه، معزول الأثر الميداني.
وبناءً عليه، فإنّ “حزب الله” يبحث عن مخرج يعفيه من كأس الهزيمة أو من مغامرة الحرب في آن. حتى الساعة، لا يبدو أنّه وجده!