بدأت الهيئة القضائية في محكمة العدل الدولية المؤلفة من 17 قاضيًا بينهم إثنان مؤقتان يمثلان كلًّا من جنوب إفريقيا وإسرائيل، النظر في “معقوليّة” الشكوى التي رفعتها بريتوريا ضد تل أبيب، بداعي خرقها لاتفاقية الإبادة الجماعية.
وفي حال قررت المحكمة التي تصدر قرارات مبرمة لا تقبل أي طريق من طرق المراجعة، قبول الدعوى، فهي سوف تنظر في ما إذا كانت تحتاج الى إصدار أوامر باتخاذ إجراءات عاجلة من شأنها أن توقف كوارث الجريمة المحتملة، لأنّ المحاكمة، في هذه الحالة، سوف تستغرق سنوات عدة.
وقد طلبت رئيسة المحكمة القاضية الأميركية جوان دونوغو، في نهاية الجلسة التي عقدتها اليوم من الفرقين القانونيّين لكل من إسرائيل وجنوب إفريقيا البقاء على أهبة الإستعداد لتزويد المحكمة بما يمكن أن تطلبه من مستندات إضافية.
وركز الفريق القانوني لدولة إسرائيل، في ثلاث ساعات خصصت له، في اليوم الثاني من الجلسات، على هاتين النقطتين، بحيث صبّ حججه القانونيّة في اتجاه إقناع المحكمة برد الشكوى لعدم انطباق عناصر الإبادة الجماعية على ما تقوم به إسرائيل في غزة، واستطرادًا برفض إصدار إجراءات توجيهية لإسرائيل، لجهة وجوب تخفيف معاناة سكان غزة، لأنّها تكفّلت بها بنفسها با لتعاون مع عدد من الدول والمنظمات الدولية، منذ أسابيع، “بحيث باتت الشاحنات التي تحمل الأغذية تدخل يوميًّا بوتيرة أكبر بكثير من تلك التي كانت قبل الحرب”.
وبدا واضحًا من مداخلات الفريق القانوني لإسرائيل الذي يقوده المستشار القانوني في وزارة الخارجية الإسرائيلية تال بيكر أنّ الصعوبة الحقيقيّة التي تواجهه لا تكمن في الرد على الوقائع بالوقائع، بل في تبرئة إسرائيل من النيّة الجرمية التي لا وجود لجريمة الإبادة الجماعيّة من دون توافرها بوضوح.
النية الجرمية كانت قد شدد عليها، في جلسة الخميس الفريق القانوني لجنوب إفريقيا، إذ استند في ذلك الى أقوال “إباديّة” منسوبة الى قادة إسرائيل، ولا سيّما الإستعانة بالتوراة التي أكثر منها رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو.
الفريق القانوني لإسرائيل عمل جاهدًا للإلتفاف على هذه الأقول، فقال في مرافعاته إنّ الإستعانة بالنصوص الدينية في الخطاب هي من قبيل البلاغة وليست من قبيل التوجيه السياسي. واعتبر الفريق أنّ هذه الأقوال سحبت من سياقها لتعطى أبعادًا غير صحيحة، ليعود فيسرد الأقوال السياسية والتوجيهات الحكومية والتعليمات العسكريّة – “وهي التي يؤخذ بها”- حيث التركيز على وجوب الفصل بين مقاتلي “حماس” و”الجهاد الإسلامي” من جهة والشعب الفلسطين ي، من جهة أخرى.
الفريق القانوني لإسرائيل لم يجد صعوبة بعد ذلك في إظهار تل أبيب في دور المدافع عن الذات في وجه “حركة حماس”. قدّم وقائع كثيرة من البلدات الإسرائيليّة التي تمّت مهاجمتها في السابع من تشرين الأوّل، حيث كان الإبتهاج والتفاخر بقتل المدنيين الإسرائيليّين. ومن ثم لجأ إلى تصريحات قادة “حماس” وفيها إظهار نية واضحة لمحو إسرائيل وإبادة شعبها، وكان الكلام الأكثر وضوحًا لجهة النية بإبادة إسرائيل هو للمسؤول في “حماس” غازي حمد، في الرابع والعشرين من تشرين الأول ( اكتوبر) الماضي، إذ قال “نعم بالطبع، نحن نريد من وراء هجماتنا إبادة إسرائيل”.
وكانت هناك جولة شملت أيضًأ ميثاق “حماس” الذي يعني، وفق تعابير قادة هذا التنظيم “تطهير فلسطين من قذارة اليهود”.
وبنتيجة هذه الوقائع، ذهب الفريق القانوني الى أبعد من ذلك، فاعتبر أنّ محكمة العدل الدولية في حال قبلت شكوى جنوب إفريقيا فهذا يعني أنّها تعمل لترسيخ فكرة إبادة إسرائيل في مقابل توفير الحماية للتنظيمات “الإرهابيّة” التي تنشط في هذا الإتجاه.
وشنّ الفريق القانوني لإسرائيل هجومًا على جنوب إفريقيا، وقال إن الإجراءات العاجلة المطلوب من محكمة العدل الدولية اتخاذها يجب أن تصب ضد بريتوريا.
وقال ممثلو الدفاع الإسرائيلي: “من المعروف أن جنوب أفريقيا تتمتع بعلاقات وثيقة مع حماس. وعلى الرغم من اعتبارها رسميًّا منظمة إرهابية من قبل العديد من الدول في جميع أنحاء العالم، فقد استمرت هذه العلاقات بلا هوادة حتى بعد فظائع 7 تشرين الأول ( أكتوبر). لقد استقبلت جنوب أفريقيا، بعد مجزرة تشرين الأول وفدًا كبيرًا من حماس.وفي تبريرها لرفع الدعاوى القضائية، ترتكب جنوب أفريقيا خروقات كبيرة لاتفاقية الإبادة الجماعية. ويبدو من المناسب، إذن أن يُطلب منها الامتثال لتلك الالتزامات نفسها، وإنهاء لغتها الخاصة بنزع الشرعية عن وجود إسرائيل، وإنهاء دعمها لحماس، واستخدام نفوذها لدى هذه المنظمة حتى تنهي بشكل دائم حملة الإبادة الجماعية التي تشنها، وتطلق الرهائن”.
ولكن هذه المقاربة للملف لا تكفي، لذلك أجاب الفريق القانوني بنفسه عن الإشكالية التي لا بد من أن تعالجها المحكمة في مداولاتها السابقة لقرارها: هل يعفي حق الدفاع عن النفس إسرائيل من وجوب التقيّد بالقانون الدولي؟ وسعى الفريق القانوني لإسرائيل في تأكيد أن تل أبيب راعت هذا القانون، على الرغم من أنّها تواجه تنظيمًا لا يقيم للقانون أيّ اعتبار.
وقال المتحدثون باسم هذا الفريق:” على مدى السنوات الـ 16 الماضية من حكمها، قامت حماس بتهريب عدد لا يحصى من الأسلحة إلى غزة وحوّلت المليارات من المساعدات الدولية، ليس لبناء المدارس أو المستشفيات أو الملاجئ لحماية سكانها من مخاطر الهجمات التي شنتها ضد إسرائيل على مدى سنوات عديدة، بل تحويل مساحات شاسعة من البنية التحتية المدنية إلى معقل إرهابي ربما يكون الأكثر تطوراً في تاريخ حرب المدن”. أضافوا:” هذا ليس تكتيكا عرضيًا. إنها طريقة حرب متكاملة ومخطط لها مسبقا وواسعة النطاق وبغيضة، تقتل المدنيين عمدا وبشكل منهجي، وتطلق الصواريخ بشكل عشوائي، وتستخدم بشكل منهجي المواقع الحساسة للمدنيين والأعيان المدنية كدروع، وتسرق وتخزن الإمدادات الإنسانية، مما ينتج لمن هم تحت سيطرتها المعاناة، حتى تتمكن هي من تأجيج قتالها وحملتها الإرهابية”.
ووفق الفريق القانوني فإنّ مقاتلة هذا النوع من التنظيمات يلحق ضررًا كبيرًا بالمدنيّين، لأنّهم عمليًّا وضعوا في الواجهة ليكونوا ضحايا لمن يتسترون وراءهم.
ولفت هؤلاء الى أنّه في حال تخلت حماس عن هذه الاستراتيجية، وأطلقت سراح الرهائن، وألقت سلاحها، فإن الأعمال العدائية والمعاناة ستنتهي.
وهذا ما قاد الفريق القانوني الى القول إنّ لا وجود لأي خلفية إبادية في العقل الرسمي الإسرائيلي، بل دفاع عن الدولة والشعب والوجود، في وجه تنظيمات إبادية تستغل المدنيّين وتسرق قوتهم!
ويختم الفريق هذه النقطة بالقول:” : “إن العنصر الرئيسي في الإبادة الجماعية، وهو نية تدمير شعب كلياً أو جزئياً، غير موجود تماماً. ما تسعى إليه إسرائيل ليس تدمير شعب، بل حماية شعب، والقيام بذلك وفقا للقانون حتى عندما تواجه عدوا بلا قلب مصمم على استخدام هذه الحقيقة ضدها”. ومن ثم تحدث الفريق القانوني بالتفصيل عن التدابير التي اتخذتها إسرائيل لتخفيف معاناة المدنيين في خلال الحرب على غزة، لجهة المناشير التحذيرية والإتصالات الهاتفية والنداءات المتكررة، معتبرًا أن حماس وقفت وراء منع حماية المدنيين لتحتمي هي بهم، مكررة ادعاءات أنّ حماس سرقت المساعدات واستغلت المستشفيات وحرمت السكان من الوقود من أجل ال أهداف العسكريّة.
ولفت الى أنّ أفعال “حماس” هذه تقف وراء غالبية المعاناة لشعب غزة.
وبعد هذا العرض الذي استغرق ثلاث ساعات انتهى الفريق القانوني الى الإستنتاج الآتي: إن قبول المحكمة شكوى المدعي من شأنه أن يضعف الجهود الرامية إلى معاقبة الإبادة الجماعية، وبدلاً من أن تكون المحكمة أداة لمنع الفظائع الإرهابية، فإنها ستحولها إلى سلاح في أيدي الجماعات الإرهابية التي لا تراعي الإنسانية وسيادة القانون، كما أنّ الموافقة على طلب جنوب أفريقيا باتخاذ تدابير مؤقتة “ستعطي إشارة للجماعات الإرهابية بأنها قادرة على ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ومن ثم طلب الحماية من هذه المحكمة”.
ماذا سيكون عليه موقف المحكمة؟
قد يستسهل كل طرف، بحسب موقعه، أن يستشرف القرار الذي يمكن أن تتخذه محكمة العدل الدوليّة، ولكن مما لا شك فيه أن فريق جنوب إفريقيا وضع أمامها حقائق مؤلمة فيما فريق إسرائيل واجهها بنقاط معقدة في القانون الدولي ليس سهلًا الإجابة عنها. ولهذا السبب، فإنّ ترجيح ميل على آخر في القرار المنتظر، في وقت لاحق، هو تعبير عن هوى وليس عن واقع!