في العام 2016، وفي حلقة خصصتها قناة “الحرة” التلفزيونية الأميركيّة للبحث في تهديدات إسرائيليّة للبنان، على خلفية تضارب مصالح محددة بين “حزب الله”، من جهة وتل أبيب، من جهة أخرى، تفاجأتُ بوجود محلل سياسي إسرائيلي، لبناني الأصل، إسمه إيدي كوهين يتقاسم الحوار الذي ضمّ إليّ، ضيوفًا من المملكة العربية السعودية ومن الحزبين الديموقراطي والجمهوري الأميركيّين.
وعلى الرغم من أنّني لا أنتمي، لا قولًا ولا فعلًا ولا تعاطفًا ولا تفهمًا، إلى “محور الممانعة”، فقد استفزّني ما أدلى به كوهين. لم يكن هذا الرجل يحلّل، بل كان يدلي بما يسمّيه معلومات، ويمعن، بوقاحة، في إطلاق التهديدات، يمينًا ويسارًا.
وورد في كلام كوهين، يومها، أنّ اللبنانيّين يستنجدون بإسرائيل حتى “تخلّصهم من حزب الله”، وأنّ عشرات الصحافيّين اللبنانيّين يتصلون به ويطلبون منه أن يضغط على حكومته من أجل أن “تقضي على حزب الله”. وقال إنّ إسرائيل، هذه المرة، سوف تدمّر كل لبنان، لأنّ على جميع اللبنانيّين أن يدفعوا ثمن سكوتهم على “حزب الله”، وفي مقدمة هؤلاء المسيحيون الذين سيتم تدمير الأماكن التي يعيشون فيها.
وعندما وصل الكلام إليّ، وكنتُ أطلّ عبر تقنية “سكايب” كما هي عليه حالة الضيفين السعودي والإسرائيلي، حاول الإعلامي المحاور أن يفتح موضوعًا آخر ليتحدّث معي في شأنه، لكنّني رفضتُ أن يمر كلام كوهين مرور الكرام، فتوليتُ الرد عليه، وأفهمتُ المشاهدين، بقدر إمكاناتي، أنّ ليس في لبنان أيّ شخص عاقل يمكن أن يراهن على إسرائيل في موضوع “حزب الله”، فهي، مهما فعلت، لن تفعل أكثر ممّا قامت به في حرب تموز 2006 التي خرج الحزب، بنتيجتها، رافعًا “علامة الإنتصار”، وأتاحت له أن يرتد على اللبنانيّين، فقاد ضد مجموعات منهم عملية عسكرية بدأها في السابع من أيار 2008 وأنهاها باتفاق الدوحة الذي أعطاه “حق الفيتو” في السلطة التنفيذية، ووّقت، بالتنسيق مع الحكومة الإسرائيليّة، عملية “تبادل الرهائن”، لتتزامن ليس مع محاولة محو الآثار السلبية لما بات يسمّى في لبنان “بغزوة أيار” فحسب بل لتدعّم الحملات الإنتخابيّة التي يتولّاها الحزب لنفسه ولحلفائه، أيضًا.
وأنهيتُ:“إنّ اللبنانيّين يعتبرون، بعد تجربتهم الطويلة، أنّ إسرائيل لا تقيم أيّ اعتبار للبنانيّين، فهي تفضل أن يحكمهم حزب الله، وتتعاطى معه ككيان حكومي، وجل ما تطلبه، في المقابل، هو أن يمنحها الهدوء على الحدود. وقد تتعارض مصالح إسرائيل وإيران في أماكن كثيرة، ولكّنها تتطابق بما يختص بالداخل اللبناني”.
لم يعلّق كوهين على كلامي. كل ما أعرفه أنّها كانت المرة الأخيرة التي تطلب منّي قناة “الحرة” أن أحلّ ضيفًا في واحد من برامجها. أجهل إن كان ثمة صلة سببيّة بين ردي على كوهين الذي أغضبه كما أفهمني المحاور لاحقًا، وبين “هذه القطيعة”. وفي الواقع لا يهمّني كثيرًا أن أعرف، لأنّني لستُ من “هواة” هذا النوع من الإطلالات التلفزيونيّة.
عادت هذه الواقعة الى ذاكرتي، في هذه الأيّام، وأنا أتابع التهديدات اليوميّة التي يطلقها مسؤولون إسرائيليّين ضد “حزب الله” ولبنان.
وبدا لي أنّ الأدبيات التي يتوسّلها المسؤولون الإسرائيليّون ومعهم الدعائيون العاملون لديهم، لم تتغيّر، فما يقولونه، منذ سنوات طويلة يكررونه حاليًا، مع بعض التعديل، إذ لم يعودوا يهددون لبنان بالعودة الى العصر الحجري بل أصبحوا يتوعدونه بأن يلاقي مصير قطاع غزة.
ومن يراجع أرشيف المواقف يصيبه التشابه في التهديدات المكررة، بالدهشة!
و”حزب الله” الذي لا يمكن اعتباره هاويًا في المسألة الإسرائيليّة، يدرك ذلك ويتعاطى معه كما لو كان منعدم الوجود، ولذلك، فهو يهزأ، من الرسائل التهديديّة التي تصله، إن لم يوقف فورًا حربه الحدوديّة ولم يسحب “وحدة الرضوان” الى ما بعد شمال نهر الليطاني.
وعليه، فإنّ “حزب الله”، بعد كل تدخل أميركي أو فرنسي، يصعّد المواجهة، ويذهب مع إسرائيل إلى حيث تذهب، فإن عمّقت استهدافاتها عمّق قصفه، وإن استهدفت مراكز مدنيّة استهدف مثلها في المقلب الآخر، وإن التزمت ب”قواعد الإشتباك” التي سبق أن توصل إليها معها، على مدى سنوات طويلة أعقبت انتهاء حرب تموز 2006، إلتزم.
وفي هذه الحالة، يتحاور “حزب الله” بالنار أو بالإيحاءات، مع إسرائيل، وهما معًا، في اللحظة التي تناسبهما، سوف يتوافقان على التهدئة. وليس من قبيل الصدفة أنّ الجيش الإسرائيلي أوقف، خلال مرحلة “هدنة غزة” كليًّا، استهداف المناطق الحدوديّة اللبنانيّة، بعدما فهم أنّ “حزب الله” سوف يلتزم بها!
وعليه، فإنّ الثمن، في حالتي التصعيد والتهدئة، سوف يدفعه اللبنانيّون عمومًا ومعارضو “حزب الله” خصوصًا.
ومن يدقق في المطالب التي ترفعها إسرائيل الى الولايات المتحدة الأميركية وفرن سا، حتى لا تتوسّع الحرب المشتعلة على جانبي الحدود اللبنانيّة- الإسرائيليّة، يتأكد أنّ مصالح إسرائيل لا تتقاطع مطلقًا مع مصالح اللبنانيّين المناوئين ل”حزب الله”.
تطالب إسرائيل بأن يسحب “حزب الله” قواته المقاتلة الى شمال نهر الليطاني، أي أنّها تطالب بضمانات أمنيّة وعسكريّة لشمالها هي، ممّا يجنّبها أن تعيش، مرة جديدة، الكابوس الذي استيقظت عليه في غلاف غزة، في السابع من تشرين الأول الماضي.
وهذا يفيد بأنّ إسرائيل ومعها الولايات المتحدة الأميركية وفرنسا لا تكترث بأن يكدّس “حزب الله” قوّته في الداخل اللبناني، ويصرفها في الهيمنة على الدولة وقراراتها والشعب، ولا أن ينصب صواريخه طويلة المدى، في مناطق لبنانية أخرى.
وهنا أيضًا، تتناقض مصالح إسرائيل جذريًّا مع مصالح معارضي “حزب الله”.
وعليه، فإنّ الحكمة تقتضي بأن ينأى معارضو “حزب الله” بأنفسهم عن مساندة الدبلوماسيّتين الفرنسيّة والأميركيّة في موضوع الحدود، إذ إنّ مصلحتهم لا تكمن في حصر النقاش بموضوع تنفيذ القرار 1701 بل بوجوب أن يمتد الى المطالبة بتنفيذ القرار 1559 الذي يدعو الى نزع السلاح من كل الميليشيات اللبنانيّة وغير اللبنانيّة وحصرها بيد الجيش اللبناني وسائر القوات العسكريّة والأمنية الشرعيّة.
إنّ الإعتقاد بأنّ حماية لبنان من حرب لا يقوى عليها تستدعي دعم الجهود الرامية الى سحب الجناح العسكري ل”حزب الله” الى الداخل اللبناني، هو مثل أن أكون شخصيًّا قد اعتقدت، قبل سنوات طويلة، أنّه يجب التعاطي بجدية مع تهديدات إيدي كوهين “الفارغة” في تلك الحلقة التفزيونيّة الصاخبة.