بطبيعة الحال، للحرب التي اندلعت في لبنان، في ١٣ نيسان ١٩٧٥ أسباب محلية، اذ كانت فئة لبنانية تعتبر نفسها “سيّدة الكيان”، وفئة ثانية ترى نفسها “ضحية التهميش” وفئة ثالثة تعتبر نفسها في “كيان استعماري” يفصلها عن مداها القومي!
ولكنّ لبنان، طالما تجاوز هذا الانقسام، بالحد الأدنى من الأضرار، إلى اليوم الذي دخل فيه العامل الإقليمي بقوة، واستغل هذا الواقع الرخو، وحوّل “بلاد الأرز” إلى مساحة لصراعات المحاور وجبهة بديلة لمقاتلة إسرائيل ومرتعًا لتنظيمات تعتبر ان طريق القدس تمر ببيروت!
وسقط لبنان في جحيم الحرب. البعض وصفها بالحرب الاهلية، مركزا على العوامل الداخلية، والبعض الاخر، اعتبرها حرب الآخرين على ارضه، مركزًا على العوامل الإقليمية والفلسطينية والإسرائيلية.
ومع اتفاق الطائف، خرج لبنان من حربه الاهلية ولكنه بقي ضحية حروب الآخرين التي برزت أوضح تجلياتها للأجيال الجديدة في إلحاق لبنان ب”وحدة الجبهات” وتوريطه ب”حرب المساندة” تحت عنوان:” الطريق إلى القدس”!
حاليا، وعلى الرغم من أنّ الطموحات والتطلعات والصراعات مستمرة، إلا أنّ عوامل انتهاء حرب الآخرين على ارض لبنان تلوح في الأفق، فالهزيمة التي مني بها “حزب الله” عسكريًا أفهمته حدود قدراته، في ظل التطور الهائل في صناعة الأسلحة وارتباطها بالذكاء الاصطناعي والحرفية البشرية، وسقوط النظام السوري الذي كان الحامي الأبرز لوظيفة لبنان “المتراسية”، وإقفال “الكوريدور الإيراني” الذي كان جسر تسلح ل”حزب الله” وللقوى والتنظيمات التابعة له!
وهذا يعني انّ المعطيات الجيو-سياسية تصب، للمرة الأولى، منذ اكثر من خمسين سنة لمصلحة الكيان اللبناني، ف”لبنان أوّلًا”، أصبح بالقناعة هنا وبقوة الأمر الواقع هناك، حقيقة كاملة!
ولكنّ هذه الإيجابيات لا تعني أنّ الرحلة وصلت إلى خواتيمها، بل من الواضح أنّها خطت أولى خطواتها ، في الاتجاه الصحيح!
فورشة نزع سلاح “حزب الله” شائكة للغاية، وهي من دون شك معقدة، ولكن ما يمكن ان يسهلها انها باتت، وباعتراف الجميع، مرتبطة ارتباطاً وثيقا بورشة ملحة اسمها إعادة إعمار ما هدمته الحرب، وهي ورشة تحتاج إلى استكمال تحرير الأرض ووقف العمليات الإسرائيلية العدائية وتدفق أموال ضخمة. وكل ذلك لن يحصل، كما بات واضحًا، من دون ان تنطلق ورشة إزالة سلاح “حزب الله”.
و”حزب الله” سوف يشتري الوقت لإرجاء هذا الاستحقاق، لأنّ لسلاحه وظائف متعددة، بينها وظيفة داخلية، اذ يستعمله في فرض مسارات داخلية تناسبه.
وقبل التطورات الأخيرة كانت المخاوف كبيرة من ان تعيد وظائف سلاح “حزب الله” إلى ١٣ نيسان ١٩٧٥، في ظل تعدد الدعوات إلى تغيير النظام السياسي في لبنان، بحيث يتم تقسيمه او تحويله إلى كونتونات ضمن نظام فدرالي.
وقد ضعفت هذه الدعوات، منذ دفعت التطورات في اتجاه إعادة بناء السلطة التنفيذية بانتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل الحكومة وإطلاق التعهدات والالتزام ببناء دولة تحتكر العنف والأمن والقوة، وتفعّل دور الدولة. بطبيعة الحال، لا تقتصر مهمة إعادة بناء الدولة على الملف العسكري-الأمني بل تتعداه إلى ملفات كثيرة بالأهمية نفسها، مثل الإصلاح السياسي والإداري والاقتصادي والمالي، الأمر الذي يدخل لبنان في شراكة مع المجتمع الدولي.
وهذه مهمات شائكة مثلها مثل صعوبة ن زع السلاح، لأنّ العقود الأخيرة رسخت العلاقة بين السلاح والفساد، بحيث استعان الركنان ببعضهما البعض من اجل تحقيق الاستراتجيات الأنانية المتبادلة. ويفترض حلول “اليوبيل الذهبي” لانطلاق الحرب في لبنان العودة إلى الأسباب واستخلاص العبر، من اجل الاستفادة من الفرصة السانحة وطي صفحة الحرب إلى غير رجعة، لأنّ الأمم لا يمكن ان تحيا مع أشباح الماضي، بل عليها ان تأسر هذه الأشباح في كتب التاريخ وتنطلق نحو مستقبل يواكب ركب التطور الحضاري المذهل!