وحده الأمين العام لـ”حزب الله” الشيخ نعيم قاسم، من الجانب اللبناني، قدم تفسيراً لاتفاق وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية - الإسرائيلية. قال إنّ هذا الاتفاق وضع آلية جديدة لتنفيذ القرار 1701، ويهدف إلى انسحاب الجيش الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية التي دخلها.
بطبيعة الحال، شرحُ قاسم هذا، وإن كان صحيحاً، إلّا أنّه مجتزأ وتطغى عليه الدعائية!
الجانب الإسرائيلي يقدم شرحاً أوفى للاتفاق، فهو، وإن كان يتحدث عن انسحاب جيشه إلى ما وراء الخط الأزرق، وهو الحدود المؤقتة التي رسمتها الأمم المتحدة بعد الانسحاب الإسرائيلي من لبنان في العام 2000، إلّا أنّه يشدد على جملة نقاط أخرى، تفسّر النقاط الواردة في هذا الاتفاق، فيفيد بأنّ على “حزب الله” الخروج من كامل منطقة جنوب نهر الليطاني وعدم العودة إليها، تحت أي مسمّى، فيما الجيش الإسرائيلي لن ينسحب قبل أن يصبح الجيش اللبناني بمؤازرة اليونيفيل، جاهزاً لملء الفراغ والقيام بالمهام الواضحة الموكلة إليه، لجهة منع “حزب الله” من العودة وإعادة تأسيس نفسه في المنطقة. يشير الجانب الإسرائيلي إلى أنّ لبنان تعهد بعدم السماح لـ”حزب الله” بإدخال السلاح عبر المعابر البرية والبحرية والجوية، وبتفكيك مصانع تجميع الصواريخ والمسيّرات على كامل الأراضي اللبنانية.
ويقول مسعد بولس، مستشار الرئيس الأميركي المنتخب إنّ الاتفاق يشمل نزع سلاح “حزب الله” في المناطق الواقعة شمال نهر الليطاني أيضاً. وليس في التصريحات الصادرة عن الأميركيين والفرنسيين ما يتناقض وقوله هذا الذي يتقاطع مع ما يقوله الطرف الإسرائيلي.
“حزب الله” الذي يعتبر نفسه منتصراً على قاعدة “منع إسرائيل من إلغائه” يلمّح إلى أنّه يعيد تكوين هيكليته ومؤسساته وقدراته، و”المقاومة باقية وقوية ولن تتخلّى عن أهدافها”.
رئيس مجلس النواب نبيه برّي، وهو الطرف الأقدر على تقديم شرح واف عمّا فاوض عليه ووافق عليه، يلتزم صمتاً مدوياً، فيما اللبنانيون لا يعرفون شيئاً عمّا يخبئه لهم المستقبل، فهل “حزب الله” المسلح باق أو آيل إلى الاندثار؟ وهل ما يقوله الجانب الإسرائيلي صحيح أم أنّه يجهّز الأرضية لحرب جديدة؟ وهل “حزب الله” يحاول التذاكي على اتفاق، لو لم يوافق عليه لما كان، أم أنّه يحاول رفع معنويات جمهوره ومناصريه ومقاتليه؟ وهل يمهّد بدوره الأرضية لحرب جديدة، بعد أن يستعيد أنفاسه، أم أنّه يعطي إيران ورقة تفاوضية، وهي التي تخسر أوراقها الواحدة تلو الأخرى، سواء في فلسطين أو في لبنان أو في سوريا، مع تلاشي الفاعلية الاستراتيجية لورقتي الحوثيين في اليمن والحشد الشعبي في العراق؟
بغضّ النظر عن “الفذلكة” التي يقدمها “حزب الله” لمفهوم الانتصار، فهو لم يعطِ موافقته على اتفاق وقف إطلاق النار، بهذه النوعية من التفسيرات الإسرائيلية المدعومة الى حد كبير بالتصريحات الأميركية والفرنسية، إلّا على قاعدة وضعيته العسكرية التي مُنيت بخسائر فادحة، في وقت انكسرت كل الشعارات التي رفعها، بدءاً بوحدة الساحات، مروراً بالعبور إلى الجليل، وصولاً إلى تحرير القدس. يضاف إلى ذلك بطبيعة الحال، تسببه بحرب كان يعد بيئته قبل الآخرين، بأنّها يستحيل أن تندلع، بفعل ما يملكه من قدرة ردع.
اللبنانيون بحاجة إلى أن يخرج عليهم برّي، ويشرح لهم الاتفاق وتعهدات لبنان الواقفة وراء بنوده، ليُحسن الجميع أن يستشرفوا المستقبل الذي ينتظرهم، لأنّ المستقبل، في كثير من الأحيان، يمكن أن يكون أسوأ من الحاضر والماضي في آن. ولقد اختبر اللبنانيون ذلك على مدى عقود، فكل أمل يلوح أمامهم، يتحوّل بفعل تجهيلهم إلى مأساة.
ولا يمكن أن يهمل أحد، بعد التجربة الأخيرة، التهديدات التي تُطلقها إسرائيل، فهي يمكن أن ترجئ تنفيذها، ولكنّها، في اللحظة المناسبة تُنزلها على لبنان، كما لو كانت قدراً.
آخر التهديدات الإسرائيلية شملت الدولة اللبنانية، إذ أكد المسؤولون الإسرائيليون، أنّه في حال عدم الالتزام بمضمون اتفاق وقف إطلاق النار، فإنّ الحرب هذه المرة لن تكون حصراً ضد “حزب الله” بل ضد الدولة اللبنانية أيضاً.
في خلفية هذه التهديدات، أنّ الطرف المفاوض الذي قدم الضمانات ليس “حزب الله” بل الدولة اللبنانية ممثلة ببري الذي حظي بدعم كامل من الرئيس نجيب ميقاتي، وفي ظل إدراك الجيش اللبناني للدور المنوط به.
وهذا يعني أنّه تقع على بري مسؤولية الوضوح في تعاطيه مع اللبنانيين، لأنّ من حقهم أن يعرفوا ماذا يخبّئ لهم المستقبل ويستنبطوا الدور الذي عليهم القيام به.
يستحيل أن يبقى اللبنانيون في المتاهة. يسمعون هذا ويسمعون ذاك، من دون أن يستطيعوا التمييز بين الصادق والكاذب، بين الواقعي والموهوم، بين البناة والمدمّرين، بين صانعي السيادة وجاذبي الاحتلال!
بداية المشوار نحو الحقيقة، قد تكون بنشر الترجمة الرسمية لاتفاق وقف الحرب، حتى يُبنى على الشيء مقتضاه، ويعرف جميع اللبنانيين إلى أين يقودهم “حزب الله” الذي طالما استخدم الغموض من أجل التحكم بمصيرهم!