قبل ساعات من حلول الذكرى السنويّة الثالثة لانفجار مرفأ بيروت، كانت الفئات اللبنانيّة على اختلافها تقدّم دليلًا جديدًا على أنّها، عن جهل أو عن دراية، عن مزايدة أو عن سبق إصرار، تنفّذ الأجندة التي يضعها “حزب الله”.
كيف ذلك؟
في ليالي “عاشوراء” صعّد الأمين العام ل”حزب الله” حسن نصرالله ضد “المثلية الجنسية” وطالب بوجوب محاربتها في المجتمع اللبناني وتشديد القوانين ضدّ من يروّج لما سمّاه بالمؤامرة الأميركية- الأوروبية على لبنان.
ومهّدت “كتلة الوفاء للمقاومة” لهذا التصعيد ضد ما سمّته “الشذوذ والرذيلة”.
وارتفعت الأصوات ضد هذا المسار الذي يشقه “حزب الله”، ليس لأنّ هناك من ينظر الى “المثلية الجنسية” بطريقة مختلفة عن النظرة الدينيّة اعتمادًا على التطوّر العلمي والطبي في هذا المجال، فحسب بل لأنّ شرائح وازنة في لبنان ترفض تسليم الأحزاب الدينية المسألة الأخلاقية في المجتمع، خشية إغراقه في الإنحرافات السلطوية التي تشهدها بلدان عدة تتقدّمها، كنموذج سيّئ للغاية، “الجمهورية الإسلامية في إيران”، أيضًا.
ولكنّ المفاجأة كانت في أنّ قوى بعضها مصنّف كخصم ل”حزب الله” ، ترك الفراغ الرئاسي والكارثة المالية والإقتصادية والقضاء المعطّل والعدالة المفقودة وآلاف الملفات الأخرى، وراءه وسار في نهج “حزب الله”.
وبرز أنّ اللقاء الذي جمع فريق العمل الوزاري لرئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، بحث في هذا الموضوع مع البطريرك الماروني الكاردينال بشارة الراعي خلال زيارته للديمان، وقرّر، خارج كل المعايير الدستورية، أن يعقد لقاء وزاريًّا تشاوريًّا في المقر الصيفي للبطريركية المارونية يوم الثلاثاء المقبل لوضع تصوّرات لطريقة مكافحة هذه “الآفة الإجتماعية”.
والأدبيات التي صدرت من الديمان في هذا السياق، تأتي متناقضة مع التوجهات الجديدة التي أقرّها البابا فرنسيس، منذ بداية هذا العام، إذ دعا إلى تعامل جديد مع المثليين جنسيًا، على اعتبار أنّ “المثلية الحنسية” ليست جريمة، داعمًا كلّ التوجهات التي تتيح للمثليين أن يعيشوا في مجتمع متسامح معهم، على قاعدة محبّة المختلفين، ممّا ينقل الكنيسة من آخر ما أورثته إيّاه القرون الوسطى، إلى زمن الأنوار والعلم!
ولو اقتصر الأمر على الديمان لهانت الأمور، لكنّ النائب أشرف ريفي الذي يقدّم نفسه على أنّه من أعتى معارضي “حزب الله” في لبنان، ظهر، في اليوم التالي لاجتماع الديمان، ليكشف أنّ لديه اقتراح قانون ضد “الشذوذ والإنحراف”، وهو بدأ يجول به على المرجعيات الدينيّة السنيّة التي باركت مساعيه وأيّدتها، بلهجة تشبه تلك الخلفيات التي أتاحت لتنظيمات متطرّفة، في السنوات الأخيرة، أن ترمي المثليين جنسيًا، من الطوابق العليا، في تنفيذ لعقوبة الإعدام بحق “طبيعتهم”!
وبغض النظر عن القناعات الشخصية في المواضيع الشائكة، مثل المثلية الجنسية، إلّا أنّ ما هو مؤكد، أقلّه على مستوى تسلسل الأحداث، أنّ “حزب الله” يضع جدول الأعمال في البلاد، والقوى الأخرى، تُهمل الملفات التي سبق أن فتحتها، لتسير، وفق هذا الجدول، أكان لمعارضته أو لتنفيذه!
إنّ هذا النموذج الصارخ من طريقة تعامل القوى الرئيسية في لبنان مع الأحداث، يمكنه أن يعطي تفسيرًا لوجه أساسي من أوجه الضعف العام في مواجهة ما يريده “حزب الله” للبلاد، فهو لا يفرض الأولويات، بفضل قوّته فحسب، بل بفعل تضييع خصومه للبوصلة، فأولوياتهم تائهة، ومسارهم مربك وأهدافهم رمادية، أيضًا.
وهكذا، تحوّل إحياء الذكرى السنوية الثالثة لانفجار مرفأ بيروت، إلى مجرّد محطة عابرة تلقى فيها الكلمات المؤثرة، ليُنسى في اليوم التالي التحقيق المجهض والعدالة المفقودة والضحايا المهملين.
وهذا “الإنسحاق” الوطني العام، لا يقتصر بطبيعة الحال على ملف انفجار مرف أ بيروت، بل يسحب نفسه على كل شيء، بحيث سرعان ما يمر عيد الجيش فيطوى الحديث عن وجوب أن يحتكر السلاح والسيطرة على الحدود، وتُغلق صفحة اللصوص الذين أفرغوا خزينة الدولة وجيوب المواطنين من خيراتها لمصلحة تحديد الموقف ممّن سوف يخلف رياض سلامة في منصبه، ويُعلّق موضوع رئاسة الجمهورية لمصلحة النقاش في البعد الطائفي لسلوك حكومة تصريف الأعمال.
وعليه، فإذا تكلّم “حزب الله” يتحوّل الآخرون الى رجع صدى!