طارق اسماعيل
خرج “حزب الله” من الحرب منهكاً، وتلاشى الكثير من مواطن قوته، وصورة الحامي التي كرسها في الوعي الشيعي خصوصاً، بددتها الحرب لصالح فكرة تستدعي الجيش اللبناني كحامٍ بديل
قبل الحرب الأخيرة بينه وبين إسرائيل، كان “حزب الله” يقيم في الوعي الشيعي كفتوَّة مقتبسة من “فتوَّات” أحياء مصر الشعبية، أو “العكيد” في حارات الشام القديمة على ما ترسمه لنا المسلسلات السورية.
في الحرب الأخيرة، صار معلوماً، على رغم مكابرة مفتعلة، ما يتبدى عليه وضع الحزب، وتالياً صورة الاقتباس المندرج بين” فتوة” أو “عكيد”.
خرج “حزب الله” من الحرب منهكاً، وتلاشى الكثير من مواطن قوته، وصورة الحامي التي كرسها في الوعي الشيعي خصوصاً، بددتها الحرب لصالح فكرة تستدعي الجيش اللبناني كحامٍ بديل. لكن فكرة كهذه، وفي الوعي ذاته، تبدو استعصاءً نفسياً كرّسها أولاً خطاب تعبوي أحادي القوة من الحزب، وثانياً تخاذل السلطة السياسية التي دارت في فلكه في العقدين الأخيرين تحديداً( لا بأس هنا من مراجعة كلام ميشال عون وإميل لحود كنموذجين عن التخاذل).
والاستعصاء المذكور ليس ترفاً يُدَّعى، إنه وقائع يشي بها ما يحتمله دور البديل في جغرافيا يفضي ربطها بالديموغرافيا إلى فهم هذا الاستعصاء.
من حدود لبنان الشرقية مع سوريا، إلى الحدود الجنوبية مع إسرائيل، وإلى محيط مطار رفيق الحريري الدولي المحاذي لضاحية بيروت الجنوبية، هناك واقع “حِمائي” جديد يُفترض أن تكرَّس فيه أدوار الجيش اللبناني فقط.
درج
نحن والحال، أمام تفكيك خطاب ضدي يتسع راهناً ضد الجيش اللبناني، وضد رئيس الجمهورية والحكومة، وقائلوه هم من بيئة الحزب، ولا تبدو غاياته إلا رافداً للاستعصاء أعلاه، أما إفضاؤه المراد فيكمن في أسوأ الفرضيات كمحاولة من “الحامي” السابق لمشاركة “الحامي” البديل دوره الراهن، وإطار الشراكة يتبدى في بعث مفهوم الاستراتيجية الدفاعية كغاية رديفة للغاية الأساس التي تشي وقائع الأيام الأخيرة شرقاً وجنوباً، وعلى طريق المطار، بمحاولة أخيرة لاسترجاع “الفتوة” الآفلة.
من حرب العشائر الشيعية مع فصائل إدارة العمليات العسكرية في سوريا شرقاً، إلى مشهديات العبث اليومية في بيروت، وقبلها مسيرات عودة الجنوبيين إلى قراهم المحررة، هناك ما يشي برابط بين الوقائع الثلاث. رابط يختصر مشقّة الشيعة التي يصنعها عدوّهم حيناً، و”فتوتهم” المفترضة أحياناً أخرى.
كانت مشاركة “حزب الله” في الحرب السورية ثِقلاً في هذه المشقة ال شيعية، ثقلاً تكشفت مآلاته أخيراً بسقوط نظام بشار الأسد، ومآل الحكم إلى خصوم الحزب، والذي اندرجت التوترات الأمنية الأخيرة شرقاً كنتيجة حتمية لتلك المشاركة التي انساق إليها، وانساق معه وعي شيعي وازن مفطوم بأيديولوجيات مذهبية عابرة للزمن، وبمخيلة مقفلة على جاذبية “فتوته” وحمايته.
الحرب الأخيرة مع إسرائيل تبدّت بأوزان المشقّة كأثقل ما وقع على هذا الوعي المنفصم راهناً بين أمرين، خطاب لا يني يدعي الحماية وفرادتها، ووقائع يشي كل ما فيها بتهافت خطاب كهذا. انفصام عطَّل هذا الوعي بمشهديات عبثية متواترة في بيروت، ومشهديات جنوبية لم تخلُ وقائعها الإنسانية من محاولات مقنعة لتخفيف منسوب فكرة إخراجه من حماية تتأتى من بعد مذهبي، إلى أخرى لبنانية عاتقها على الجيش اللبناني. هنا أيضاً لا بأس من العودة إلى وقائع اليوم الذي تلا هدنة الأيام الستين، والى تغطية آلة الحزب الإعلامية لها لتفسيرفكرة تبديد هذا الخروج.
من الجنوب تحديداً، حيث مسرح المنازلة المقنعة لـ”حزب الله” مع الجيش اللبناني، ومن الدور المناط بالأخير كبديل ذي قابلية لبنانية وعربية ودولية، تشي وقائع التوترات الأمنية بأن رابطاً مشتركاً يقيم على خط هذه التوترات، ويستدرج بالضرورة إنهاك الجيش اللبناني، وتفريخ بؤر توتر متباعدة تفترض ب الضرورة تشتيت الدور الراهن له جنوباً، وتستدعي مجدداً فكرة الاسترتيجية الدفاعية، ودوراً حِمائياً لحزب تدَّعي كل المناخات، اللبنانية والعربية والدولية، أنَّ دوره قد أنتهى.
والحال، لم يأتِ “حزب الله” بالسياسة إلى حدث الطائرة الإيرانية المؤسس راهناً لتوترات محيط مطار بيروت، والتي ستكون قطعاً أقل كلفة على البلد، وعلى مؤسسة أمنية ينتظرها استحقاق جنوبي يفترض أن يكون “حزب الله” نفسه أكثر المعنيين بناسه وبإعادة إعماره، لكن الحزب ذهب مباشرة إلى سلاحه الرديف المتمثل في بيئة لا يزال وعيها مكوياً بفكرة أن لبنان لا يتسع إلا لفتوة واحدة، فتوَّة “حزب الله”.