في الأيّام الأولى لإقحامه الجبهة الجنوبية في “طوفان الأقصى”، لم يفت “حزب الله” التركيز على “تحرير ما تبقى من أراض لبنانية محتلة”، ولكنّه سرعان ما تنازل عن هذا الهدف ليركز حصرًا على مساندة غزة.
وفي الثامن من تشرين الأول (اكتوبر) الماضي، كان قد أصدر بيانًا جاء فيه الآتي: ” على طريق تحرير ما تبقى من أرضنا اللبنانية المحتلة وتضامناً مع المقاومة الفلسطينية المظفرة والشعب الفلسطيني المجاهد والصابر قامت مجموعات الشهيد القائد الحاج عماد مغنية في المقاومة الإسلامية صباح هذا اليوم الأحد الموافق 8 تشرين الأول 2023 بالهجوم على ثلاثة مواقع للإحتلال الصهيوني في منطقة مزارع شبعا اللبنانية المحتلة وهي: موقع الرادار وموقع زبدين وموقع رويسات العلم بأعداد كبيرة من قذائف المدفعية والصواريخ الموجهة وتم إصابة المواقع إصابات مباشرة وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم”.
ولكن في وقت لاحق، وبتوجيه من أمينه العام حسن نصرالله تنازل “حزب الله” عن ذكر “التحرير” وأدرج حربه في إطار مساندة غزة “على طريق القدس”!
لماذا تنازل “حزب الله” عن المبرر اللبناني ليكتفي بالمعطى الفسلطيني، مع أنّ ذلك جرّ عليه، لاحقًا، غضبًا عارمًا شمل حتى الفئات التي طالما كانت ضمن “الداعمين”، مثل “التيار الوطني الحر” الذي قال رئيسه جبران باسيل إنّه يعارض حربًا على طريق القدس ولكنه يؤيد حربًا على طريق مزارع شبعا؟
الجواب عن هذا السؤال، يكمن، وفق المطلعين على المعطيات، في أنّ “حزب الله” تراجع، بعدما تلمّس العزم الإسرائيلي على خوض حرب تنطلق من “عقيدة الوجودية”، عن تحديد أهداف ايجابية، كتحرير الأرض، وانكفأ الى تحديد أهداف “خامدة”، كوقف النار في غزة، بحيث بات “الإنتصار” محصورًا بمنع إسرائيل من تحقيق أهدافها في غزة، ولم يعد ممتدًا الى تحرير الأرض اللبنانية المحتلة!
والفارق بين الهدفين كبير، إذ إنّ تحرير الأرض يستدعي حربًا واسعة واقتحامات، الأمر الذي بدا أنّ إسرائيل كانت قد استعدّت لصده وإفشاله، في حين أن هدف “وقف إطلاق النار في غزة”، لا يتطلّب سوى ربط جبهة لبنان بجبهة القطاع الفلسطيني، بحيث يتحقق الأول بمجرد الوصول الى الثاني، أي أنّ “حزب الله” رفع عنه المكابدة وحصرها بالتنظيمات الفلسطينية في قطاع غزة.
وكانت “حرب التحرير” التي أشار إليها “حزب الله” في بياناته الأولى الصادرة بدءًا من الثامن من تشرين الأول الماضي محكومة بالفشل، من جهة وخاطئة استراتيجيًّا، من جهة ثانية.
هي كذلك، لأنّ هدفها الوحيد الممكن الدفاع عنه، ظاهريًّا، هو تحرير مزارع شبعا، على اعتبار أنّ الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين، كان قد بدأ العمل على خط لبنان وإسرائيل، قبل السابع من تشرين الأول الماضي، من أجل إزالة الخروقات الإسرائيلية للخط الأزرق، اي للحدود المؤقتة التي تمّ رسمها بين البلدين، على إثر الإنسحاب الإسرائيلي من جنوب لبنان في ربيع العام 2000، وتمّ تكريسها بموجب القرار 1701 الذي أوقف الحرب التي اندلعت في تموز 2006.
وتحول دون تحرير مزارع شبعا معوقات كثيرة، تبدأ باستحالة هذا الأمر عسكريًّا وتنتهي باستحالته دبلوماسيًّا، أيضًا.
الإستحالة العسكرية لا تحتاج الى طول شرح، إذ إنّ الجيش الإسرائيلي متفوّق، بشكل كامل، في هذه المنطقة، إذ يعجز “حزب الله” عن أن يشنّ فيها، بسبب عدم تواجد بيئة مدنية حاضنة، “حرب عصابات”، وبالتالي، فهو من أجل الضغط لتحريرها، يحتاج الى شن هجومات صاروخية أكبر من تلك التي سبق أن شنّها في حرب تموز2006، الأمر الذي من شأنه تدمير ما لم يأتِ عليه الإنهياران الإقتصادي والمالي في لبنان.
ولكن، ما عجزت عن تحقيقه حرب العام 2006 لن تحققه دبلوماسيًّا الحرب الحالية، ولو حاولت أن تستفيد من “وحدة الساحات”، لأنّ المجتمع الدولي لا يتعاطى مع مزارع شبعا على أساس أنّها لبنانية، بل على أساس أنّها سوريّة جرى احتلالها في إطار احتلال الجولان في حرب العام 1967.
وتبيّن تقارير الأمين العام للأمم المتحدة التي يرفعها دوريًّا الى مجلس الأمن الدولي، وكان آخرها قبل أيّام، أن موضوع مزارع شبعا يحتاج الى ترسيم الحدود بين لبنان وسوريا، الأمر الذي يتحاشاه النظام السوري، بحيث سبق أن قدم معلومات غير دقيقة للأمانة العام للأمم المتحدة في العام 2007، إذ زعم أنّ “تعيين الحدود” بين البلدين يجري نقاشه مع الحكومة اللبنانية التي أكدت عدم صحة هذه المزاعم.
وإذا كانت المؤسسات الدولية لا تتعامل مع تقاريرها، على أساس التحليلات، فإنّ المجتمع الدولي يدرك عن كثب أنّ موضوع تحرير شبعا كان مبرّرًا لكلّ من النظام السوري و”حزب الله” لعدم نزع سلاح “المقاومة الإسلامية في لبنان” وبالتالي النأي بلبنان عن صراعات المحاور وحروب المنطقة.
ويرفض الوسطاء الأميركيون والفرنسيون إدراج مزارع شبعا ضمن مساعي احتواء الجبهة اللبنانيّة- الإسرائيلية، ولكنّ الرد الرسمي اللبناني لا يتنازل، بالتنسيق مع “حزب الله”، عن هذه النقطة، حتى الساعة.
ويريد “حزب الله” أن يبقى موضوع مزارع شبعا عالقًا، حتى لا ينسحب لمصلحة الجيش واليونيفيل، الى وراء نهر الليطاني، وفق ما ينص على ذلك القرار 1701، وحتى لا يجد نفسه، مجددًا تحت سندان القرارين 1559 و 1680 اللذين ينصان على وجوب نزع سلاحه وسلاح التنظيمات الحليفة له.
وتهدد إسرائيل بتوسيع الحرب على لبنان حتى تُجبر “حزب الله” عسكريًّا على سحب قواته وأسلحته الى مسافة “الأمان” لسكان البلدات والقرى القريبة من الحدود في شمال إسرائيل، في حال لم تنجح بذلك المساعي الدبلوماسيّة.
وكان لافتًا في الأيّام القليلة الماضية أنّ إسرائيل بدأت بتحشيد الرأي العام الداخلي والعالمي، ضد “حزب الله”، بحيث عملت في آن، على إظهار الدمار الذي ألحقته صواريخ “المقاومة الإسلامية” ببلدة المطلة الحدوديّة، وكوّنت ملفًا تزعم فيه أنّ هذه “المقاومة” قد يكون لديها سلاح كيميائي منتشر بين المدنيّين.
وعليه، فإنّ “حزب الله” الذي سارع الى التراجع عن إعطاء أي هدف لبناني لدخوله في “طوفان الأقصى”، قد يجد نفسه مضطرًّا إلى العودة إليه، من أجل الخروج من “السيوف الحديديّة”!