هآرتس
نحن لن ننتصر، حتى لو كنّا معاً [شعار “معاً ننتصر” الذي ترفعه المؤسسات الإسرائيلية منذ بدء الهجوم على غزة]. لقد خسرنا، فعلاً، منذ السابع من تشرين الأول/أكتوبر، في المعركة الدائرة الآن في غزة، دفاعاً عن حقنا في وطن قومي في أرض إسرائيل. وكل يوم إضافي يمرّ على المناورة البرية، يعزز هذا الفشل. وعندما تنتهي هذه المعركة الفظيعة، بعد بضعة أسابيع، نتيجة الضغط الدولي، كما هو متوقع، ستجد إسرائيل نفسها في وضع أصعب من الذي دخلت فيه صبيحة “الهجوم البربري” الذي نفّذته “حماس”. فهل يُحتمل أن ينبت أمر واحد جيد من هذا الفشل؟ ربما إنهاء الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، مثلاً؟
بتاريخ 16 تشرين الأول/أكتوبر، أعلن كابينيت الحرب الإسرائيلي أهداف الحرب التي تمثلت في: تقويض سلطة “حماس” والقضاء على قدراتها العسكرية؛ إزالة تهديد “الإرهاب الغزي” تجاه إسرائيل؛ بذل أقصى الجهود لحل قضية الرهائن؛ حماية حدود الدولة ومواطنيها. ونحن، في نهاية المعركة، لن نتمكن من تحقيق أيٍّ من هذه الأهداف.
تشير استطلاعات الرأي إلى أن مسلكيتنا في غزة تعزز مكانة “حماس” في قلوب الفلسطينيين، ليس في غزة وحدها، بل في الضفة الغربية أيضاً. أمّا مَن رغب في القضاء على “حماس” في غزة، فسيحصل عليها هنا أيضاً في الضفة الغربية. وما يبدو للكثيرين أنه جهد أقصى لتحرير المخطوفين، وهو قد نجح بصورة جزئية، عبر تحرير أقل من نصف هؤلاء، وكل يوم تستمر فيه المعركة، ستتعرض حياة أكثرية من بقيَ في الأسر للخطر. فإذا تم فعلاً التوصل إلى صفقة لإطلاق سراح هؤلاء، فإننا سنضطر إلى إطلاق سراح جميع الأسرى الفلسطينيين المحتجزين لدينا، سواء أكانوا اعتُقلوا بتهمة قتل يهود، أم لا، كما سنضطر إلى الانسحاب من القطاع والالتزام بإنهاء الحرب. إن قادة “حماس”، يا سادة، ليسوا أغبياء، فهم لن يوافقوا على أقل من ذلك. أما نحن، فسنكتفي بالطلب من الدول الصديقة، راعية الاتفاقية، بتقديم ضمانات بشأن عدم تعرُّض إسرائيل للهجوم في المستقبل.
لقد تدهورت مكانة إسرائيل الدولية فعلاً، إلى حضيض غير مسبوق، وهو ما يعرّض للخطر، ليس فقط علاقاتها مع صديقاتها، وفي المقدمة الولايات المتحدة، بل إنه أيضاً يعرّض الجاليات اليهودية في أرجاء العالم للخطر، ويجعل الإسرائيليين معزولين في العالم، كما لو كانوا مصابين بمرض الجذام في القرون الوسطى. فضلاً عن أن مكانتنا الإقليمية ضعفت بصورة هائلة. أما مَن يتغنون بـ”النظرية” القائلة إن حزب الله مرتدع عن مهاجمتنا، فلدينا أخبار من أجله: إن إسرائيل هي المردوعة. إن ضعفنا في مواجهة حزب الله تم تأكيده بصورة مدوية، حين أدرك الرئيس الأميركي جو بايدن ما يحدث فعلًا، فأرسل قوة عسكرية هائلة إلى البحر المتوسط، على وجه السرعة، من أجل حمايتنا.
وعلى الرغم من وجود قوة الردع الأميركي في الإقليم، فإن التنظيمات الدائرة في فلك إيران تنجح في إزعاجنا. لقد حوّل حزب الله عشرات الآلاف من سكان الشمال إلى لاجئين في بلدهم، أما الحوثيون، فقد نجحوا، تماماً، في قطع خط الإمداد البحري الإسرائيلي من الجنوب. هكذا، جاء اليوم الذي رأينا فيه إسرائيل تضطر، اليوم، إلى التصالح مع ما كانت تعتبره في سنتَي 1956 و1967 إعلاناً للحرب عليها.
من دون أن نبرر الهجمة الفلسطينية “الهمجية” على بلدات النقب الغربي، علينا أن نرى في هذه الهجمات الذروة الحالية للنضال الوطني الفلسطيني العنيف ضد مجرد وجود دولة إسرائيل، بصفتها الوطن القومي للشعب اليهودي في أرض إسرائيل. طوال 75 عاماً من وجودها، نجحت إسرائيل في كبح هذا الطموح الفلسطيني إلى القضاء عليها، وفي حق تقرير المصير الفلسطيني في دولة فلسطين ذات السيادة على الأرض الواقعة ما بين البحر والنهر. لقد قامت إسرائيل بذلك في البداية، بواسطة فرض الحكم العسكري على الفلسطينيين داخل حدود الخط الأخضر، ومن خلال صدّ الهجمات الموجهة إليها عبر خطوط الهدنة، ولاحقاً، بواسطة السيطرة العسكرية على سكان المناطق التي تم احتلالها خلال حرب الأيام الستة، في الضفة الغربية وقطاع غزة.
إن الأعوام الطويلة التي مرّت منذ ذلك الوقت، لم تجعل الفلسطينيين يتراخون. إن شدة معارضتهم لمجرد وجود دولة إسرائيل، يكبّد الطرفين ثمناً دموياً واقتصادياً متزايداً دائماً. ولكي لا تكون الحرب الراهنة مجرد فاتحة لموجات أكبر من العنف، ولكي تبقى إسرائيل وطناً قومياً للشعب اليهودي في أرض إسرائيل، فعلى إسرائيل أن تعتبر هدف إلغاء المعارضة الفلسطينية لوجودها، هو الهدف الاستراتيجي الأعلى، الناظم لسياساتها.
يأمل التيار الميسيائي في إسرائيل بأن يحقق، “بعون الله”، هذا الهدف، عبر تهجير جميع الفلسطينيين من الضفة والقطاع. ويؤمن هذا التيار بأن عمليات القتل الجماعي في غزة، وانفلات المستوطنين في الضفة، اللذين يجريان تحت رعاية السلطات الإسرائيلية، تهدف إلى “تشجيع” الفلسطينيين على الهجرة إلى خارج حدود المنطقة الواقعة تحت سيطرة إسرائيل، وهي خطوة معناها التطهير العرقي لنحو 5 ملايين فلسطيني. من الصعب أن نتصور أن العالم، الذي سيجبر إسرائيل على وقف الحرب في غزة عمّا قريب، في ضوء سقوط عشرات آلاف القتلى والجرحى، والخراب غير المسبوق، وتدهور الحالة الإنسانية على نطاق وحشي، سيسمح بمثل هذا الحل.
لقد أدى ما حدث في حرب “يوم الغفران”، والإنجازات التي حققها المصريون في عبور القناة، إلى استعادة مصر لكرامتها، وهو ما قاد إلى توقيع معاهدات السلام. أمّا اعتراف إسرائيل بخسارتها في الحرب الجارية، بناءً على المعطيات الموصوفة أعلاه، فهو سيساهم في ترميم الكرامة القومية للفلسطينيين، التي تعرضت للدوس طوال 56 عاماً. وعلى ما يبدو، هذه مرحلة ضرورية من سيرورة ستؤدي إلى وقف القتال في غزة، والتوصل إلى صفقة تبادُل، يتم من خلالها إطلاق سراح جميع الأسرى الفلسطينيين في مقابل إطلاق جميع المخطوفين، الذين يتعلق مصيرهم بالمدة التي ستمر، إلى أن تعترف إسرائيل بهذا الواقع.
ستضطر إسرائيل إلى الاعتراف بحق الفلسطينيين في دولة مستقلة ذات سيادة، وإلى إجراء المفاوضات مع أي قيادة يختارها الفلسطينيون، لإنهاء النزاع، بالاستناد إلى قرارات الأمم المتحدة والمبادرة السعودية. فهل يُحتمل أن تكون كارثة السابع من تشرين الأول/أكتوبر بشرى ولادة أفق جديد في الشرق الأوسط؟
مؤسسة الدراسات الفلسطينية