عند ما تُدقق في مواقف كبار المسؤولين في “حزب الله”، وتفصل المعلومات التي تتضمنها، عن أدبيات “التحشيد” و”رفع المعنويات”، تُدرك أنّ “المقاومة الإسلاميّة في لبنان” على يقين بأنّ “الحرب الواسعة” التي يخشى منها الجميع لن تقع!
من أين يأتي مسؤولو “حزب الله” بهذه الثقة؟
لا علاقة لثقة هذه القيادات بما تنوي إسرائيل الإقدام عليه، إنّما هي مرتبطة بالحدود التي وضعتها “المقاومة الإسلامية في لبنان” لنفسها، عند إعلان انضمامها وسائر التنظيمات “الشقيقة” في سوريا والعراق واليمن، إلى حرب “طوفان الأقصى”.
وعليه، يمكن لإسرائيل أن تصعّد من وتيرة استهدافاتها في لبنان، وتضرب، حيث شاءت، ولكنّ هذا لن يُخرج “المقاومة الإسلاميّة في لبنان”، عن “الصبر الإستراتيجي” الذي عمّمته إيران، في وقت سابق، على “جبهة المقاومة”.
ويعتقد “حزب الله” بأنّ إسرائيل لن تجد أيّ مبرر، في حال حافظت “المقاومة الإسلاميّة” على النهج العسكري الذي تعتمده، منذ الثامن من تشرين الأوّل، لاستهداف المباني والمنشآت المدنيّة، على امتداد لبنان.
ومن شأن هذا “الصبر الإستراتيجي” أن يُبقي الوساطات الدوليّة قائمة، من جهة ويمنع دول القرار من إعطاء إسرائيل الضوء الأخضر لشنّ حرب واسعة على لبنان، من جهة أخرى.
ويبدو واضحًا أنّ الرهان الأكبر لدى “حزب الله” هو على الإدارة الأميركية التي لا تريد أن تتورّط في تصعيد إقليمي خطر، إذ إنّ “التفاهم” الأميركي- الإيراني الحالي يقوم على معادلة تنظيم “التوتّر” لمنع “الإنفجار”.
وبهذه الطريقة، يستطيع “حزب الله”- ولو بأثمان باهظة- أن يبقى ضمن “طوفان الأقصى” حتى انتهائها، وفق ما تشتهيه “جبهة المقاومة”، أي وقف الحرب على غزة قبل أن تحقق إسرائيل هدفها المعلن: القضاء على حركة حماس!
وليس لدى الحزب ما يجعله يعتقد بعكس ذلك، فالحكومة الإسرائيليّة تثابر على التهديدات نفسها، ليس منذ الثامن من تشرين الأوّل الماضي فقط، بل منذ سنوات طويلة جدًّا، ولكنّها “لا تفعل شيئًا”.
ولا يُعطي الحزب مصداقية عالية لما يحمله الوسطاء الدوليّون من “تهديدات إسرائيليّة”، فهم، بنظره، يريدون تحقيق نتائج ولذلك يحمّلون الأمور أكثر ممّا تحتمل.
ولكن، هل تُلاقي إسرائيل انتظارات “حزب الله”؟
حتى تاريخه، لا شيء في إسرائيل يوحي بأنّ “حزب الله” يسيء قراءة الواقع.
ومن الواضح أنّ هناك انقسامًا حقيقيًّا في مراكز القرار على طريقة التعامل مع “حزب الله”، فوزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت مدعومًا من المجتمع الشمالي، من دعاة الحرب الواسعة، ولكنّ رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو ومعه “خصمه”، الوزير في حكومة الحرب بيني غانتس ليسا من وجهة النظر هذه، لاعتبارات براغماتية، إذ لا يجوز فتح جبهتي لبنان وغزة في آن، في ظل اعتراض أميركي واضح.
ونجح غالانت وقيادة الجيش الإسرائيلي في أخذ موافقة على رفع مستوى المواجهة مع “حزب الله”، لكن شرط أن تبقى دون مستوى الحرب الشاملة، أي استهداف البنى التحتية اللبنانية والمجمعات السكنية والقيام بهجومات بريّة.
وعليه، فقد انتهى قادة إسرائيل الى توافق الحد الأدنى الذي يقوم على مواصلة “التصعيد المردوع” الذي يكبّد “حزب الله” خسائر فادحة، حتى انتهاء الحرب في غزة، وبعدها، وفي حال لم تحقق المساحة التي تأخذها الجهود الدبلوماسيّة، النتائج المرجوّة يكون “لكل حادث حديث”.
وإذا كان الوسيط الأميركي آموس هوكشتاين يعاني ظاهريًّا من رفض “حزب الله” لأيّ جهد دبلوماسي قبل وقف إطلاق النار في غزة، إلّا أنّ مشكلته الأساس تكمن في إسرائيل نفسها، حيث يفتقد لدى أغلبيّة مكوّنات الحكومة ( باستثناء غانتس) المصداقية المطلوبة، بسبب وعود “استقرار الجبهة اللبنانيّة” التي تعهّد بها، من أجل إنجاح مهمّته في رسم الحدود البحريّة.
وقد تبيّن للإسرائيليّين أنّ اتفاق تر سيم الحدود البحرية بدل أن يردع “حزب الله” زاده قوّة وجرأة، وبات، ومن أجل الحصول على مبتغاه، يلجأ الى التصعيد والتهديد بالحرب وينتظر مجيء هوكشتاين لقطف ثمار ذلك.
وبالإضافة الى مشكلة المصداقية التي يعاني منها هوكشتاين في إسرائيل، فإنّ الأدوات التي يلجأ إليها لإعطاء قوّة لمساعيه، تفتقد بدورها الى مصداقية في إسرائيل التي تتهم اليونيفيل بأنّها ساعدت “حزب الله” في مضاعفة قوته في المناطق الحدوديّة بدل أن تُنهي وجوده.
ولهذا تطلب إسرائيل من هوكشتاين الذي لا يلاقي عند وصوله الى تل أبيب الحفاوة والإهتمام اللذين يلاقيهما في “بلاد الأرز” حتى قبل أن يحط في بيروت، أن يُعطيها ما تريد لا ما يستطيع.
وعليه، فإنّ إسرائيل، في مرحلة لاحقة، وكلّما ابتعدت قساوة الشتاء عن الحدود اللبنانيّة- السوريّة، سوف تصعّد عملياتها في لبنان، إلى مستوى يصبح فيه “الصبر الإستراتيجي” عند “حزب الله” معقد جدًّا، لأّنه، حينها سوف يخسر أكثر ممّا تعينه قدراته الوطنية والشعبية على التحمّل.
وفي اعتقاد إسرائيل إنّه يبقى لدى “حزب الله” شيء واحد ليفعله، وهو استهداف المدنيين ومنشآتهم، في مناطق أبعد من تلك التي يكتفي حاليًا باستهدافها، وحينها يكون قد أدخل نفسه في حرب يُطلق عليها وزير الدفاع الإسرائيلي لقب “تغيير المعادلات جذريًّا”.