“ما بعد ٧ تشرين ليس كما قبله” عبارة تردّدت على السنة الساسة والعسكريين والمحللين من كل الأطراف للتدليل على المنعطف التاريخي الذي ستشكله الحرب الدائرة في غزة.
وبعد أيام قليلة من الارتباك تلت عملية ٧ تشرين الأوّل، أعلنت القيادة الإسرائيلية بأنّ ردّها سوف يكون ساحقًا بغض النظر عن الاثمان، ولن يكون أقل من التدمير الكامل لبنية حماس العسكرية والإلغاء النهائي لأيّ تهديد أمنى لإسرائيل انطلاقًا من قطاع غزّة واستعادة قدرات الردع الإسرائيلية على كل الجبهات. وذهب بنيامين نتنياهو الى حدّ القول بأنّ الردّ الإسرائيلي سوف يغيّر وجه الشرق الأوسط فيما كان تعليقه على الاقتراحات المتداولة عن اليوم التالي في غزّة بأنّه لا يستبعد احتلالًا مباشرًا وطويل الأمد للقطاع يكون فيه لإسرائيل اليد الطولى في ادارته. حتى ان نتنياهو وأركان حربه لم يتركوا مجالًا للبحث في أيّ إمكانية لوقف مؤقت لإطلاق النار قبل تحقيق حملتهم العسكرية لكافة أهدافها وذلك تحت أيّ سبب من الأسباب، ولو كان الأمر على حساب حياة المحتجزين والمخطوفين الإسرائيليين في غزة كما ألمحوا في تصريحاتهم مؤكدين أنّ تحريرهم سوف يأتي على يد الجيش الإسرائيلي بعد إنهاك حماس وليس بالتفاوض معها. بعض الوزراء والقيادات الإسرائيلية تفننوا أيضًا في الطريقة الفضلى التي يجب اعتمادها للتخلص من أهالي غزّة: من طردهم الى سيناء، الى توزيعهم على الدول الأوروبية “لينالوا بعيدًا عن ارضهم حياة أفضل”، وصولًا الى الدعوة لاستعمال السلاح النووي لإبادتهم.
على ضفتي الحرب علت السقوف وكبرت الأهداف وعظمت التوقعات
لكن ما إن انقضت بضعة أسابيع على بداية الحرب حتى بدأت السقوف العالية بالتهاوي. قاوم نتنياهو، المهووس ببقائه السياسي، طويلًا ضغط ملف الرهائن عليه. فمعظم هؤلاء من كيبوتسات ذات ميول يسارية لا تعنيه شعبيًّا وانتخابيًّا. لم يستقبل أهالي المخطوفين الّا مرغما وذلك بعد ان نجحوا في تحريك الرأي العام الداخلي واستطاعوا تنظيم مسيرتين شارك فيهما عشرات الألوف. وتحت هذا الضغط لم يتمكن من تجاهل عروض حماس المتكررة لعمليات تبادل الاسرى والمحتجزين فيما كان عليه الاستجابة أخيرًا لمساعي الرئيس الأميركي جو بايدن الذي استنفر كبار معاونيه للعمل الحثيث مع القطريين والمصريين في سبيل إطلاق الرهائن عبر التفاوض.
قاوم نتنياهو، المهووس ببقائه السياسي، طويلًا ضغط ملف الرهائن عليه. فمعظم هؤلاء من كيبوتسات ذات ميول يسارية لا تعنيه شعبيًّا وانتخابيًّا
في الثاني والعشرين من الشهر الحالي أسقط نتنياهو وأركان حربه دفعة واحدة العديد من خطوطهم الحمر غداة الاعلان عن التوصل لاتفاق هدنة بدفع أميركي واضح وبواسطة قطرية مصرية لمدة أربعة أيام يتم خلالها تبادل محتجزين من الطرفين. سقطت لاءات وقف مؤقت لإطلاق النار والسماح بعبور كميات أكبر من مستلزمات الحياة الى غزّة بما فيها الوقود. يمكن فهم تراجع نتنياهو في هذا المجال ووضعه في الإطار التكتيكي الذي قد لا يكون له التأثير المفصلي على مجريات الحرب. اذ يمكن وضع مسألة الموافقة على الهدنة كثمن لا بد من تقديمه لاسترجاع الرهائن الإسرائيليين المدنيين وخاصة النساء والأطفال والتخلّص من هذا العبء كعقبة من امام إعادة إطلاق العملية العسكرية. ولكن لمزيد من الدقة لا بد في هذا الإطار من أخذ امرين مهمّين في الاعتبار.
إنّ الإدارة الأميركية التي ساندت إسرائيل بكل ثقلها ومنذ اللحظة الأولى لاندلاع النزاع الراهن أظهرت في الوقت نفسه انخراطا غير مسبوق فيه بغية احتوائه،
الأمر الأوّل يتعلّق بما تبقّى من المحتجزين العسكريين لدى حماس التي بدأت تلوّح بموضوع مبادلتهم وبالثمن المطلوب لذلك والذي يمكن ان يفتح الباب امام مفاوضات قد يتخطى اطارها عملية التبادل وتتجاوز نتائجها الهدن القصيرة. وما مسارعة رؤساء أجهزة مخابرات الولايات المتحدة وإسرائيل ومصر للانتقال مؤخرًا الى قطر الّا مؤشرًا على ذلك. مع ما يعنيه الامر من إعطاء الوقت لحماس لإعادة تنظيم صفوفها والتخفيف من اندفاعة العملية العسكرية الإسرائيلية وإتاحة المزيد من الوقت في ظلّ صمت آلات الحرب للمبادرات السياسية التي قد تؤدي الى حرف نتائج الحرب عن الأهداف التي أطلقتها الحكومة الإسرائيلية من اجلها.
الامر الثاني يتعلق بمحورية الدور الأميركي في التوصل الى الهدنة وعمليات تبادل المحتجزين ودلالاته على اشكال الضغط الأميركي في المرحلة اللاحقة من الاعمال العسكرية. ضغط ينطلق من حسابات أميركية خالصة. كان واضحًا، ولا يزال، المستوى غير المسبوق للانخراط الأميركي في هذه المفاوضات والمتابعة الشخصية اللصيقة لإنجاحها وحسن تطبيقها من قبل الرئيس بايدن، ما أظهر نتنياهو بموقع المتلقي واللاهث لتحسين شروطه لا أكثر في هذا الملف.
لا تريد الولايات المتحدة بأي شكل من الاشكال ان تُستدرج مجددًا الى مستنقعات الشرق الأوسط التي جهدت للخروج منها
إنّ الإدارة الأميركية التي ساندت إسرائيل بكل ثقلها ومنذ اللحظة الأولى لاندلاع النزاع الراهن أظهرت في الوقت نفسه انخراطا غير مسبوق فيه بغية احتوائه، فنشرت أساطيلها على وجه السرعة على شواطئ المنطقة لمنع توسّع الحرب الى الإقليم ونجحت بذلك الى حد كبير. وخلال زيارة بايدن الى إسرائيل بعد بضعة أيام على عملية ٧ تشرين الأول لإظهار التضامن مع الدولة العبرية ودعمها في حقها في الدفاع عن نفسها لم يفته في الوقت نفسه مطالبة القيادة الإسرائيلية بتجنب خوض الحرب على غزّة تحت تأثير الغضب والرغبة في الانتقام في أوّل إشارة أميركية الى ضرورة وضع ضوابط لهذه الحرب والى ان لمظلّة القوّة العظمى الأمنية كما الديبلوماسية على اسرائيل حدودًا في المديين الزمني والنوعي. فالولايات المتحدة لا تريد بأي شكل من الاشكال ان تُستدرج مجددًا الى مستنقعات الشرق الأوسط التي جهدت للخروج منها. وعلى المستوى نفسه من الأهمية، فإن بايدن الذي يسعى إلى الفوز بولاية ثانية في الانتخابات الرئاسية التي أصبحت على الأبواب، لن يسمح مطلقًا لنتنياهو بأن يستفيد من إطالة أمد الحرب لدعم حظوظ حليفه المفضل دونالد ترامب، اذ بات واضحًا التأثير السلبي لتداعيات الوحشيّة الإسرائيليّة في غزّة على الرأي العام المؤيّد تقليديًّا للديمقراطيين في اميركا مما قد يهدّد بايدن بالسقوط في السباق الرئاسي.
لن يسمح جو بايدن لنتنياهو بأن يستفيد من إطالة أمد الحرب لدعم حظوظ حليفه المفضل دونالد ترامب
على هذا الأساس يغدو من غير المستبعد أن تنشط الإدارة الأميركية على وقع الهدن الممدّدة وأن يرتفع مستوى ضغوطها لإيجاد تسوية تؤدي سريعًا الى وقف دائم لإطلاق النار.
هل سينجح بايدن في ذلك تاركًا حماس امام اهل غزة المفجوعين لتبرر أمامهم نتائج ما أقدمت عليه في ٧ تشرين ومتأملا من بعيد سقوط نتنياهو الذي سيرافقه هذا التاريخ كوصمة عار تسببت به سياسته ونرجسيته؟ وهل ينجح أيضًا في إعادة الاعتبار للسياسة في المسألة الفلسطينية بعد اسكات المدافع ويكون هو من يقطف ثمار هذه الازمة في صناديق الاقتراع بعد أقل من سنة من اليوم؟
أسئلة سوف تكون الإجابة عليها رهن نتائج المواجهة التي بدأت بالتصاعد بين رئيس الوزراء الإسرائيلي والرئيس الاميركي في طريقة التعاطي مع الازمة الراهنة.