احتل مقدّم البرامج الساخرة الإعلامي المصري باسم يوسف ترند منصات التواصل الاجتماعي بعد عرض مقابلته مع المذيع الإيرلندي بيرس مورغان، حول ما يحدث في غزة، وتجاوزت مشاهدات اللقاء حاجز الخمسة ملايين مشاهدة في غضون ١٦ ساعة من نزولها على قناة ” بيرس مورغان أنسينسورد” الرسمية في “يوتيوب”.
واللافت في ردّ يوسف على “الإشادات” العربيّة الواسعة حول المقابلة، ما كتبه على حسابه على منصة “إكس”: “من عاش بمدح الناس مات بذمّهم… بكرة تقلبوا عليّ تاني… لقد سبق لي أن شاهدت هذا الفيلم”.
ماذا قصد يوسف بردّه هذا؟ هل حمل في طيّاته نوعًا من الرفض؟ أو تاق من خلاله إلى مزيد من الثّناء والتهنئة والمديح؟ أو ربما كان فيه شيء من الاستخفاف بآراء مادحيه وعدم الثقة بثباتهم؟
من المعروف أن للثناء قدرة خارقة على التشجيع وحافز على التطوّر والتعلّم، وقد كرّس الكثير من علماء النفس في السنوات الأخيرة أبحاثهم العلمية حول الثناء والتهنئة، واستنتجوا أنّ الأسلوب الذي يقال فيه التقدير والسّي اق الذي يحدث فيه، بالإضافة إلى العلاقة بين الأشخاص، سواء كانوا آباءً أو معلمين أو معجبين أو أصدقاء أو زملاء أو شركاء في الحياة… يؤثر على حسن سير العلاقة في ما بينهم.
وغالبًا ما يخبّئ الإطراء في ثناياه تقييمًا، ويمنح لمقدّم التهنئة بطريقة ما، سلطة للحكم على المتلقي، فأنت ذكي جدًا مثلًا، إذا قيلت بطريقة عشوائية، قد تثير الشكّ والرّيبة.
ورأى الباحثون أنّ الثناء، متى نبع من حسن النيّة، قد يحقّق هدفه من الفعاليّة، فتقديم التهنئة بشكل صحيح لشخص ما، يعتبر فنًا قائمًا بذاته، فالمُثني مثلًا، يجب أن يكون على قدم المساواة مع الشخص المُثنى عليه إذا لم يتخطّاه مكانة، ولهذا السبب، قد يبدو من غير المناسب مثلًا، أن يقول عامل النظافة لمدير الشركة: “لقد أتممت إدارة ملفك بشكل جيّد”! كذلك، يمكن أن يشعر الزملاء بالاستياء من الثناء الذي يتلقونه أمام زملائهم في العمل، لأن ذلك قد يعطي انطباعًا بأنهم نجحوا أخيرًا في تحقيق شيء قيّم.
الإنسان… هل هو بحاجة إلى الثناء؟
الإنسان هو كائن اجتماعي ولديه حاجة قوية إلى الانتماء وسماع التقدير، فالدفء البشري البسيط والمودّة من قبل الآخرين قد توازي احترامه لنفسه، وثناء الآخرين، متى كان صادقًا، يقدّم للمرء معلومات مهمة بشأن هويته، كما تؤثّر الصّورة التي يحملها عن نفسه بشكل كبير على تفكيره وشعوره وتصرّفاته، لذا، فإن الثناء، وأيضًا الانتقادات، قد تسمح له بمعرفة من هو حقًا، وتلقي التهنئة إلى جانب الحبّ والاحترام هم الأسس الثلاثة التي يقوم عليها تقدير الذات، خاصة بالنسبة للأطفال.
اللاهث وراء الثناء و… الرافض له
وفي حين يكون الإطراء هدفًا لفئة لا تنفك تبحث عنه باستمرار، ومتى حصلت عليه تتوق إلى المزيد منه، فإن هناك فئة أخرى ترفضه رفضًا قاطعًا.
ويعيد عالم نفس والأستاذ المحاضر في جامعة أمستردام إدي بروميلمان، ذلك إلى سمتين مهمتين جدًا في شخصية الإنسان هما: النرجسية وتقدير الذات، ويقول: إنّ “الأفراد الذين يتمتعون بسمات نرجسية قويّة، والذين يعتقدون بأنهم رائعون ولديهم الحق بمعاملة خاصة، عادة ما يظهرون رغبة وحاجة للتقدير، وهم لا يكتفون بمجرّد المديح انما يرغبون في أن تتم تهنئتهم بشكل دائم، ومقارنتهم بغيرهم وتفوّقهم عليهم، وإذا لم يأتِ المديح على قدر رغباتهم، ينتابهم شعور بالاستفزاز، والإحباط، وأحيانًا الغضب، كأن يحاولون بذلك تعويض نقص حالي أو سابق في الحب أو الاحترام”.
كذلك، قد تقوّي التهاني المفرطة في بعض الأحيان سمات الشخصية النرجسية، كما أظهره إدي بروميلمان أيضًا في دراسته ويقول: “إذا قمنا بتهنئة طفلنا بشكل زائد كأن نقول له دائمًا كل ما تقوم به هو رائع! ونضعه دائمًا في منزلة عالية، أي نلمّح له بشكل متكرر أنه الأفضل، الأعظم، الأذكى والأسرع… فمن المرجّح أنه سينتهي به المطاف بتصديق أنه حقًا هكذا، ولأن ذلك لا يتناسب دائمًا مع الواقع، فأقل انتقاد سيواجهه لاحقًا، سيوقعه في مشكلة أكبر وهي عدم تقدير الذات وما ينتج عنها من شعور بقلّة الثقة بالآخرين، مما يجعله رافضًا لتلقي الثناء والمديح، وهذا ما يفسّر استساغة البعض له في حين يرفضه آخرون.
بالطبع، هذا لا يعني بأي حال من الأحوال أنه يجب الامتناع عن إبداء الإعجاب وتقديم الثّناء، خاصةً تجاه الأطفال الصغار، لأن الإطراء، يبقى بالنسبة إليهم خارطة طريق لفهم العالم من حولهم، فكلمات مثل ممتاز أو عظيم عندما يحاولون ربط أشرطة أحذيتهم مثلًا، تؤكد لهم أنهم في الطريق الصحيح.
الميزان الصحيح للمدح
أجمع الخبراء، لعدم الشكّ بمصداقية المادح، أن تقدّم التهنئة بحذر وبعيدًا عن المبالغة، خصوصًا متى كانت موجهة إلى الأطفال ذوي “الأنا المتضخّمة”، وكذلك للأشخاص البالغين الأقل ثقة بأنفسهم حتى لا يتحمّلوا عبء هذا الثناء والتشجيع، م ن هنا فإن تلقّي المجاملة لعمل عاديّ وسهل، يثير الشعور بأن الآخر كان لديه صورة سيئة جدًا عنه.
وقد قاموا بوضع ثلاث قواعد لجعله فعّالًا تتمحور حول الآتي:
القاعدة الأولى: الصّدق
في العام ٢٠١٦، أجرى علماء نفس في جامعة سيول دراسة على ٣٠٠ طالب في المدارس الابتدائية الكورية الجنوبية، بحيث قام الأطفال وأولياء أمورهم المشاركين بتقييم مجموعة متنوّعة من الثناءات على مقياس يمتد من واحد، للاعتراف بالأداء الضعيف جدًا، إلى سبعة، للإطراء المفرط، وبيّنت النتيجة أن الأداء الدراسي ورفاهية الشباب تعتمد على نوعية وكمية التهنئة، فعلى سبيل المثال، عندما تلقّى الأطفال تهاني “متوسّطة”، حقّقوا درجات أفضل وكانوا أكثر سعادة وأظهروا علامات اكتئاب أقل مقارنة بأقرانهم الذين تلقوا تهاني بشكل مفرط أو مختزل.
ولاحظت الدراسة أنّ الطفل لا يمكن أن يفهم قبل بلوغه سنًّا معيّنًا، إذا كان ثناء الكبار نابعًا من باب تلطيف الحقيقة، أو تضخيمها أو إخفائها أو حتى تشويهها بواسطة الكذب.
القاعدة الثانية: التركيز على تقييم العمل بدلاً من النتيجة:
إنّ الثناء على العمل قد يقوّي تدريجياً اهتمام الأطفال بالتحصيل العلمي، بينما الثناء على النتيجة قد يجعلهم يعتقدون أنهم قد لا يكونون محبوبين أو محترمين إلا إذا حازوا على علامات جيدة في المدرسة، فعلى سبيل المثال، إذا نجح طفل في إنجاز واجب الرياضيات، فمن المشجّع عادة أن نقول له: جيد أنك عملت بجد لإكمال هذا الواجب، بدلًا من برافو لقد حصلت على علامة ١٨/٢٠.
القاعدة الثالثة: التهنئة على الجهود والجدارة، لا على ما هو خارج عن الإرادة:
بالطبع، يمكن أن يكون تلقي مجاملة بسبب لون الشعر الطبيعي لشخص ما ممتعًا، ولكنه قد يترك طعمًا ناقصًا لأنه ليس نتيجة جهده الشخصي أو إنجازه، كما من الأفضل أن نقول القالب غالب مثلًا، أو يعجبني ذوقك في اختيار الملابس على أن يقال ملابسك جميلة.
هذا ويبقى، أنّ الثناء متى قيل في غير مكانه، فإنّ تأثيراته قد تكون عكسية، فكلمة “برافو… ما هذا النجاح!” عبارة قد تحمل في طيّاتها المدح والذم وفي أحيان كثيرة الاستفزاز، وكذلك المقارنة مع الآخرين، فضغط المنافسة، على الرغم من أنه قد يكون محفّزًا في بعض الحالات، إلا أنه قد يؤثّر على الجهود اللاحقة للفرد بشكل عام.