في مؤتمره الصحافي الأوّل الذي عقده يوم الإثنين الماضي، قال الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إنّ إسرائيل باغتيالها رئيس حركة “حماس” إسماعيل هنية في طهران كانت تسعى إلى جرّ إيران الى حرب إقليمية، واعتبر أنّ تفويت الفرصة على “الكيان الصهيوني” كان في ” تحلينا بضبط النفس حتى الآن”.
حتى تاريخه، لم تعترف إسرائيل باغتيال هنية في “قدس أقداس” الحرس الثوري الإيراني. لم تعلّق، علنًا، لا سلبًا ولا إيجابًا على العملية التي تمّ اتهامها بها. وفي الغرف الدبلوماسية، كانت تصر على أنها سوف تدرج أي هجوم إيراني، تحت عنوان، الإنتقام لاغتيال هنية، في خانة “العدوان” عليها، وسوف ترد على ذلك، بكل ما تملكه من قدرات. كان مبرر إسرائيل أنّ الاعتقاد بضلوعها بعملية الاغتيال شيء وتأكيد ذلك شيء آخر، وتاليًا هي لن تعطي إيران شرعية الهجوم عليها، بناء على الشبهة والظن والإعتقاد، مهما كانت النتائج!
لم يكن لدى البيت الأبيض، حيال هذا المنطق الإسرائيلي، ما يعينه على إقناعها بالعكس. مرة جديدة، تمّ تفعيل إتفاقيات الحماية العسكرية، فجمدت إيران خطط الإنتقام، لأنّها، وهي التي تلهث وراء “الإنقاذ الاقتصادي”، بحاجة الى تمهيد الطريق أمام أكبر عملية جذب للإستثمارات الخارجية (مئة مليار دولار أميركي) وليس الى تنفير آخر “الملاليم ” الصامدة فيها!
بزشكيان في ما قاله عن تفويت فرصة جر إيران الى الحرب من خلال عملية اغتيال هنية لم يكن مخطئًا على الإطلاق. تحليله هو الذي ساد في ديوان مرشد الجمهورية الإسلامية علي خامنئي، صاحب القرار الحقيقي في “جمهورية الملالي”، فبلع تهديده وأعاد تفعيل فتواه الخاصة ب”الصبر الإستراتيجي”، ووافق على طرح بزشكيان: تفعيل أذرع إيران أكثر فأكثر، وتدبير عملية ضد إسرائيل من الطبيعة المخابراتية نفسها!
لماذا هذا التذكير بما كان قد حصل؟
ببساطة، لأنّ السيناريو نفسه أعيد طرحه، ولكن في لبنان هذه المرة.
ما حصل مع “حزب الله” يومي الثلاثاء والأربعاء، من خلال تفجير أجهزة الإشعار (بايجر) و”توكي ووكي”، بأكثر من أربعة آلاف شخص من مقاتلي حزب الله وموظفيه المدنيين وقيادات “فيلق القدس” يتقدمهم السفير الإيراني في لبنان أماني محتجبي في عملية أمنية تقارب “الخيال العلمي”. (ما حصل) تمّ نسبه الى إسرائيل التي التزمت عدم التعليق، نفيًا أو تأكيدًا. وبعد ساعات ممّا حصل، توعد “حزب الله” بالإنتقام!
وكما في حالة اغتيال هنية، يبدو اتهام إسرائيل منطقيًّا للغاية، فهذا الحدث الضخم جاء بعد 14 ساعة فقط من إعلان الحكومة الإسرائيلية الحرب على “حزب الله”، وهو واكب اجتماعات أمنية طارئة للبحث في “أمر مهم ومثير” – كما قيل في تل أبيب- عقدها بنيامين نتنياهو، بعدما أوقف، بصورة مفاجئة، مفاوضات ضم جدعون ساعر الى الحكومة وإمكان إقالة وزير الدفاع يوآف غالانت. وتملك إسرائيل القدرات للقيام بعملية أمنية كبيرة مماثلة، فهي من أكثر الدول تقدمًا في مجالات التكنولوجيا، ولا سيما تكنولوجيا الاتصالات واختراقها. ومن سوابقها أنها اغتالت في الخامس من كانون الثاني 1996، أي قبل أن تتعمّق أكثر في الريادة التكنولوجية، ، القيادي في “حماس” يحيى عيّاش ( مهندس العبوات الناسفة)، من خلال وضع كمية من المواد المتفجرة في هاتف نقال كان يستعمله، في مناسبات قليلة.
ولكن، وكما في حالة هنية أيضًا، ترفض إسرائيل تحمّل المسؤوليّة. في نقاشها الخاص باغتيال زعيم “حماس” تحدثت عن مسؤولية السلطات الإيرانية عن حمايته، ولا يمكن تحميل إسرائيل مسؤولية الفشل الأمني ل”الحرس الثوري الإيراني”. وفي نقاشها الحالي في موضوع مسؤوليتها عن “انفجار البايجر” تسلّط الضوء أيضًا على فشل “حزب الله” في توفير أجهزة آمنة للعاملين فيه، سواء كانوا مقاتلين أو مدنيين. بالنسبة لإسرائيل، هي لم تقصف الضحايا. لم تطاردهم. جل ما في الأمر أنّ “حزب الله” وضع في أياديهم أجهزة جرى تفجيرها، “بطريقة ما”!
هذا الجدل الإسرائيلي له هدف حربي بطبيعة الحال، فهي ترفض إعطاء “حزب الله” أيّ “مشروعية”، من أيّ نوع كان، لهجوم على أهدافها العسكرية والمدنية. بالنسبة لها، هي قبلت التصدي للهجوم الإنتقامي لاغتيال تبنته للقائد العسكري في الحزب فؤاد شكر، ولكنّها لن تكتفي، هذه المرة، بالتصدي للإنتقام من “انفجار البايجر”، بل ستهاجم، بقوة.
وهذا يعني أنّ إسرائيل، سوف تستغل “الإنتقام” من أجل كسب مشروعية لحربها المعلنة الهادفة الى تغيير الأوضاع على الحدود الشمالية. تغيير يمكن أن يصل، وفق توصيات قائد المنطقة الشمالية في الجيش الإسرائيلي أوري غوردين، إلى إقامة شريط أمني داخل الأراضي اللبنانية وتحديدًا جنوب نهر الليطاني، وفق ما كان قد حصل في “عملية الليطاني” في العام 1978.
ماذا سيفعل “حزب الله”؟
وفق ما هو ظاهر في التقييمات العسكرية، لا تبدو إسرائيل مذعورة من قدرات الحزب الكبيرة. هي واثقة بأنّها يمكن أن تحتوي الأذى التي يمكنه أن يلحقه بها. خوفها السابق من كارثة محتملة على مستوى الجبهة الداخلية، خفّ كثيرًا، خصوصًا بعد درسها لدروس التصدي ل”عملية الأربعين”، وهو الإسم الذي أطلقه “حزب الله” على هجومه الضخم انتقامًا لاغتيال فؤاد شكر. وفق قائد المنطقة الشمالية، أصيب “حزب الله”، على مدى “المناوشات” المستمرة منذ الثامن من تشرين الأول بأضرار كبيرة على مستوى الكفاءات البشرية والعسكرية والهرمية. كان ذلك قبل الأذية الهائلة التي تعرض لها، بانفجارات “البايجر” و”توكي ووكي” أربعة آلاف شخص، سواء كانوا مقاتلين أو في خدمة المقاتلين. أذية على الرغم من ضراوتها لا توازي الضرر الضخم على مستوى تنظيم التواصل والاتصال بين القيادة والمقاتلين.
السؤال الذي سيتوافر الجواب المؤكد عنه، في الأيّام وربما الساعات المقبلة هو الآتي: هل سيقتدي “حزب الله” بإيران، ويرجئ الإنتقام الى “وقت أنسب”، حتى يفوّت على إسرائيل “مشروعية” الحرب، في توقيت وظرف يبدوان مناسبين لها؟ أو أنّ ما حصل معه أكبر من القدرة على الإحتواء ولا بدّ من أن يهجم الى الأمام، من أجل التغطية على أعظم فشل أمني ومخابراتي مُني به؟
الأمين العام ل”حزب الله” حسن نصرالله المخوّل تقديم الجواب سبق له أن جزم بأنّ إيران سوف ترد بقوة لا مثيل لها على اغتيال إسماعيل هنية لأنّ ما حصل لا يمكن السكوت عنه، نظرًا لخطورته الأمنية والمعنوية. اعتبر الانتقام الإيراني لهنية أهم بكثير من الانتقام لاستهداف القنصلية الإيرانية في دمشق، حيث اغتيلت قيادة “فيلق القدس في بلاد الشام”. حتى تاريخه، لم يتطابق كلامه مع الواقع. ذهبت إيران، من خلال رئيسها، إلى إعلان الانتصار على إسرائيل بتفويت جرّها، من خلال الإنتقام، إلى حرب إقليمية.
وعليه، هل يقتدي “حزب الله” بالحكمة الإيرانية أم ينفّذ هذه المرة، وفي ظروف جدية للغاية، ما صدحت به حنجرة نصرالله، في ظروف أقل حماوة: يا هلا ومرحب بالحرب؟