حذّرنا من الحرب، وبيّنّا عجزنا عن الصّمود في أتونها، فاتّهمونا بالخيانة، رغم أنّ “دود الخلّ منّو وفيه”. وبعد أن “وقعت هذه الواقعة” التي حذ ّرنا منها، طُلب منّا الوقوف إلى جانب من نبّهناه ونصحناه. والمفارقة الأشدّ مرارة، أن من يطلبنا اليوم للتّضامن معه، لم يتراجع عن قراراته القاتلة، ولم يعترف قطّ بأخطائه، بل لا يزال غارقًا في إنكارها.
رغم مغامراته الطائشة واستفراده بقرار السّلم والحرب، تجاوز الحزب حدودَ الوقاحةِ بمراحل، ولم يتوانَ يومًا عن تخوين كلِّ من عارض سياساته الجائرة، حتى في ظلّ الدمارِ المتواصلِ والقصفِ المستعرِ، وخساراته المتتاليةِ في الميدان. من أمناءَ عامين للحزب، إلى كامل قيادةِ وحدةِ الرضوان، وقائدِ منظومةِ الاتّصالات، وصهرِ الأمينِ العامِّ الرّاحل نصرالله، وقائد الوحدة 4400، وقائد فرقة “الإمام حسين”، ومسؤول نقل العسكريّين، وقائد وحدة “بدر”، وصولًا إلى نائبِ رئيس المجلس التّنفيذي… قائمةٌ طويلةٌ من الخسائر، ورغم ذلك، لا يزال الحزبُ ماضيًا في تعنّته.
المحاسبة تأتي عمومًا بعد الحروب، غير أنَّنا في بلادٍ لم تذق يومًا طعمَها. فلا بعد الحرب الأهليّة التي مزّقت النّسيج الوطني، ولا باتّفاق الطّائف الهجين الذي وُضِع كعلاجٍ سطحي لمرضٍ مزمن، ولا بعد عام 2005 ، ولا بعد تمّوز عام 2006 ، ولا حتى في أيّار 2007 حيث تاهت البوصلة بين الأمل واليأس. لقد أخفقت المحاسبة أن تجد سبيلها أيضًا بعد 4 آب حيث اهتزّت الأرض تحت وطأة الان فجار، ولا في الشّارع، ولا في صناديق الاقتراع التي حُشرت بالأماني، دون أن تثمر عن شيء. المؤسف أنَّ البعض لا يزال يعوّل على مشروعٍ للمحاسبة بعد وقف إطلاق النّار وانتهاء الحرب، وهو مشروعٌ قد يستغرق أعوامًا، بل عقودًا، يُكلّفنا انتظاره حياةً جديدة.
الفرق واضح. جزءٌ يسعى إلى محاسبة الحزب، مُدخلًا إيّانا في معركةٍ تحت شعاراتٍ اتّضحت هُشاشتها، وجزءٌ آخر يطلب محاسبة من لم يؤيّد قرارات المقاومة الإسلاميّة. لم تصمت أبواق الأخيرة في الداخل، بل هدّدت بتصفية معارضينها عقب انتهاء الحرب، مُستعرضةً قوّةً تفتقر إلى الشرعيّة. إنّنا أمام مشهدٍ متناقض، فالجدير بالذّكر أن الفئة الأولى تطالب بالمحاسبة القانونيّة تحت إطار الدّولة والقضاء، في سعيٍ جادّ لاستعادة العدالة، بينما الفئة الثانية تسعى لممارسة العنف الممنهج والبطش الذي استخدمته في السّابق، لتعيد بسط سلطتها مجدّدًا. فهل تتحقق المحاسبة التي تنشدها الجماهير، أم تُطوى مرّةً أخرى في زوايا التاريخ تحت سطوة السّلاح وإكراهات السّلطة؟
هل ستشهد إذًا البلاد سلسلة اغتيالات جديدة فور انتهاء الحرب تشبه سلسلة الإغتيالات الذي نفّذتها نفس المجموعة سنة ال٢٠٠٥ وال٢٠٠٦ ؟
مراجعة تاريخيّة، تبيّن أنّه عند انهزام قوّات وسلطنات وأنظمة كبيرة، تقوم ب أبشع الممارسات قبل خروجها كما قامت السّلطات العثمانيّة بإعدام عدد من الشخصيّات الوطنيّة اللّبنانيّة والسورية بتهم التحريض ضدّ الدولة العثمانية أو التعاون مع القوى الأجنبيّة. ناهيك عن المجاعة الكبرى في جبل لبنان (1915-1918) التي كانت إلى حد كبير مفتعلة من قبل السلطات العثمانية آنذاك.
تكرّر المشهد أيضًا قبل خروج النظام السوري من لبنان في عام 2005، ارتبطت فترة وجوده بسلسلة من الاغتيالات السياسيّة التي استهدفت شخصيّات لبنانيّة بارزة، خاصّةً تلك التي كانت تعارض النفوذ السوري في لبنان.
وربما يكون السيناريو الآخر، أن يسعى الحزب إلى إعادة ترتيب صفوفه، مستعيداً قبضته الحديدية على مفاصل الدولة، فيلجأ إلى سلسلة من التصفيات الدامية، تطال “أعداء الداخل”، بمن فيهم ربما أعضاء من الحزب نفسه. تمامًا كما فعل نظام الأسد عقب اندلاع الثورة السورية عام 2011، حيث جعل من الاغتيالات سلاحاً لإسكات المعارضين، سواء كانوا سياسيّين، عسكريّين، أو ناشطين. كانت تلك الاغتيالات وسيلة لترسيخ هيمنة النظام من جديد، وإيصال رسالة صارمة لكل من تسوّل له نفسه الوقوف في وجه بقائه في السلطة.
بات جلياً أن هذا التنظيم، مهما كانت مآلات الصّراع الميداني في المستقبل، يشكّل تهديدًا خطيرًا على الداخل اللّبناني واستقراره.