حسن المصطفى
نقاشات واسعة دارت في عدد من وسائل ال تواصل الاجتماعي، بشأن الإجراءات التنظيمية التي يتم اتخاذها في موسم عاشوراء، من قبل الأجهزة المعنية في دول مجلس التعاون الخليجي، وإلى ماذا تشير هذه الترتيبات، وما الغاية منها، ولماذا يتم تطبيقها عاماً بعد آخر بدقة، فيما كانت بعض الممارسات سارية ولم يتم الاعتراض عليها في سنواتٍ خلت؟!
هذا النقاش صحي، وضروري، من أجل أمرين: الأول، فهم معنى “سيادة القانون” ومكانته في الدولة الوطنية الحديثة؛ أما الأمر الثاني فهو: معرفة مدى حضور الخطاب الديني في المجال العام وحدوده.
بداية، من المفيد أن تكون النقاشات علمية، موضوعية، هادئة، بعيدة عن الخطاب الطائفي أو التحريض على الكراهية، وأن لا تتحول لتراشق يهدد السلم الأهلي تستحضر فيه أحداث تاريخية قديمة وتُسقط على الحاضر!
إن الإنسان المعاصر وأي جماعة بشرية، لها الحق في الإعلان عن ثقافتها وممارسة شعائرها الروحية والدينية بحرية تامة، دون إكراه أو ترهيب، وهذا حق أساسٌ تكفله الدولة المدنية الحديثة، القائمة على مبادئ: المواطنة الشاملة، العدالة، المساواة، وحرية المعتقد.
هذه الممارسة الحرة للشعائر الدينية، لا يعني أن تقام بطريقة غير نظامية، أو يعتبر أصحابها أن لهم حقاً في تجاوز القانون، بحجة أن هذه الشعائر لها قداستها وخصوصيتها! إن روح الدين قائمة على حفظ الأمن والنظام العام، وصون السلم الأهلي، ومن غاياته أن يكون الناس في مجتمعات يسودها القانون العادل، وإلا وقع الهرج والمرج والفوضى.
هنالك إجراءات تتخذها دول الخليج العربية، كل دولة وفق قوانينها، بغية تنظيم مراسم عاشوراء، وترتبط بوجود ترخيص للمكان من الجهات المختصة، وتوفر اشتراطات السلامة والصحة العامة، إضافة لبعض الترتيبات المتعلقة بالصوت والوقت والطعام والنطاق الذي يتم فيه إحياء المناسبة والشعارات والرايات التي ترفع.
هذا الترتيب ليس الهدف منه منع المواطنين من ممارسة شعائرهم الخاصة في موسم محرم، أو أنه تضييق ممنهج يستهدف الحد من إحياء ذكرى مقتل الإمام الحسين بن علي، كما يروج البعض. وهي ادعاءات ينبغي الحذر منها، لأنها تريد إحداث شرخٍ بين المواطنين وأجهزة الدولة، والإيحاء بأن هنالك “اضطهاداً مذهبياً”، ودفع شريحة من المواطنين إلى العزلة والانكفاء السلبي، أو اتخاذ مواقف عدائية – دينية تجاه الحكومات الخليجية، ولذا يجب قراءة هذه الإجراءات بعقلٍ موضوعي غير انفعالي، ضمن سياقاتها الصحيحة، وليس وفق ما يروج بعض المتطرفين أو بعض من تغيب عنهم الكياسة.
إن دول الخليج تتجه نحو ترسيخ سيادة القانون، ومواجهة المحاباة والمحسوبية، ومحاربة الفساد المالي والإداري، وهذه التوجهات تصب في صالح المواطنين وتعزيز المساواة بينهم، كما ترسخ لهم حقوقهم في بيئة حياتية أكثر جودة.
من جهة أخرى، عدد من دول الخليج العربية، تعمل على تنظيم المجال الديني العام، والحد من الفوضى التي سادت خلال عقود مضت، وجعلت للوعاظ سلطة أوسع على عامة الناس، وأثرت بشكل سلبي في بعض مناحي الحياة.
هذا التنظيم ليس خاصاً بطائفة ما، بل يشمل عموم الخطاب الديني لكافة المذاهب الإسلامية دون استثناء، والغاية منه الدفع نحو وعي جديد، بعيد عن التطرف والتكفير والعنف والكراهية، وإعلاء رحمانية الدين، قبالة ثقافة السخط والسوداوية والتحريم التي نشط فيها مجموعة واسعة من الخطباء والوعاظ.
من هنا، فإن تنظيم مجالس عاشوراء يأتي ضمن هذا السياق، أي سياق تحول المجتمعات الخليجية من مجتمعات يمارس فيها رجال الدين أدواراً تفوق حدودهم، إلى مجتمعات طبيعية، مدنية، يُحترم فيها الدين، وتحترم فيها الشعائر، إنما دون أن تتحول هذه الطقوس أو يستحيل هؤلاء الدعاة إلى قداسات لا يمكن نقدها أو مساءلتها.
التنظيم يحد كذلك من الاستخدام السياسي للدين، ويفصل بين الشعائر والاستغلال الحزبي من البعض، وفي ذلك حماية لـ”المؤمنين” من أن يتم تحريكهم دون دراية لأهداف خفية من قبل بعض الجماعات.
بالتأكيد، هذه القوانين الناظمة ليست نهائية أو ناجزة، فالعملية تخضع للتطوير والمراجعة والنقد الذاتي بشكل دوري، وذلك من أجل تعزيز الإيجابيات وتلافي أي أخطاء؛ إنما الأكيد أن هذا التنظيم ليس له أبعادٌ طائفية، وإنما هو جزء من عملية تحديث أوسع لبنية المجتمع والدولة المدنية ومؤسساتها.
النهار العربي