*تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي خبرًا مفاده، أنّ سكان إحدى المحافظات المصرية، اكتشفوا، أنّ عِجْلَة (أنثى العجل وابنة البقرة)، تبلغ من العمر أربعة أشهر، حامل في شهرها التاسع، فتسارع الأهالي للتبرّك منها، وقراءة الأدعية والصلوات، وتقبيل رجليها وجسدها، باعتبارها آية من آيات الله، إلا أنه وبعد عرضها على الطبيب البيطري، تبيّن أن ضخامة بطنها ما هو إلا نتيجة فتق تسبّب في خروج أحشائها، أدّى إلى هذا التورّم. وهذا الخبر، الذي لا يعود إلى زمن غابر، إنما لأيام قليلة مضت، ما هو إلا دليل على أن شيوع الخرافات ما زال موجودًا حتى في القرن الحادي والعشرين.
ثمة اعتقاد بين العديد من المراقبين، بأنّ الخرافات والخزعبلات والأخبار الشعبوية، والديماغوجية، والأيديولوجيات المتطرّفة، والدعاية، ونظريات المؤامرة، التي تغزو العالم المعاصر، ما كانت لتنمو وتنتشر، لولا سذاجة المتلقي واقتناعه بكل ما يقال له بسهولة، بحيث اعتبروا أنّ تصديق الخوارق الطبيعية، وعلم الأمراض والعلوم الزائفة في مجتمعاتنا الحديثة، ما هي إلا خير دليل على ذلك.
ورأى الباحثون أنّ ثمّة رابطًا بين تقبّل المعلومة والسذاجة، حتى إنّ كثيرين منهم قد حسموا الأمر، إذ اعتبروا بأنّ عقل الإنسان قابل للتأثّر بسهولة لدرجة قد يصعب عليه التمييز بين الحق والباطل.
ولكن إذا كان الإنسان سهل الإيمان إلى هذا الحدّ بالخزعبلات، فكيف بالإمكان التواصل والعمل على نحو سليم في المجتمعات؟ ومن هو الشخص الساذج؟ وما هي صفاته؟ وهل من رابط بين السذاجة وقلّة الثقة بالنفس؟ وهل بات الحذر والشكّ والارتياب في كل ما يُسمع، هو دليل على الذكاء والعقلانية والحكمة؟
بيّنت الأبحاث الحديثة أنّ الصورة الواقعية ليست مظلمة إلى هذا الحدّ، ففي دراسة أجراها جوزيف فورغاس من جامعة نيو ساوث في سيدني (أستراليا)، اتّضح أن الأشخاص الذين يكونون في مزاج جيّد، يميلون بشكل أكبر إلى تصديق المعلومات الخاطئة، كما أنهم يكونون أكثر تأثرًا بالآخرين.
كذلك، رفضت الأستراليّة أليساندرا تيونيس من جامعة “ماكاري” في سيدني، ربط تصديق الخرافات بقلّة الثقة بالنفس أو النقص في الذكاء، إنما “بالشخصية اللطيفة”، كما تقول.
وقد تكون نيونيس على حق، فكم من مرة قرّرنا التغاضي عن أشياء رأيناها بأم العين، وصممنا آذاننا عن روايات أو تظاهرنا بتصديقها، من باب اللطف واللياقة وحسن التصرّف.
وتؤكّد تيونيس على أنّ ثمة علاقة بين المزاج ومعالجة المرء للمعلومات، ففي حين ترى أن المشاعر الإيجابية تساهم في “الاستجابة المسترخية والمفتوحة للمعلومات” تؤكّد أن “المزاج السلبي يُرسل إنذارات تجعل الأشخاص أكثر انتباهًا وتركيزًا على التفاصيل”.
ولكن هل هذا يعني بأنّ طبيعة المرء المرحة ودماثة أخلاقه، وخوفه من جرح وتخييب آمال الآخرين وإغضابهم، سمات قد تشجّع على استغباء الآخرين له؟
في هذا العالم القاسي، غالبًا ما يتمّ استغلال الأشخاص الذين ينتمون إلى الفئات الاجتماعية المهمّشة، فدماثة أخلاقهم وحسن تصرّفهم ولطفهم، قد تكون ناجمة في كثير من الأحيان، عن خوفهم من إغضاب من يفوقهم قدرة وجاهًا، فهشاشة وضعهم قد تجعلهم عرضة لبعض الانتهازيين والمخادعين، بحيث يتعذّر عليهم حتى التعبير عن آرائهم بصدق وتجرّد، لأنهم أصلًا غير قادرين على ذلك، فانجرافهم في بعض الأحيان، وراء القصص السخيفة التي تُروى لهم، وتظاهرهم بالغباء لا يعني أبدًا بأنهم مغفّلون، إنما يكون ذلك بسعي متعمّد منهم، بتغليف حكمتهم بنوع من السذاجة، علّها تساعدهم على إفساح الطرق وتعبيدها أمامهم للوصول بسلام.
ولكن ماذا عن المحازبين وأنصار السياسيين الذين يتقبّلون كل ما يقال له م ويغيّرون آراءهم كلما غيّرها زعيمهم، فهل هم سذّج، أو يصار إلى استغلالهم، أو مُقتنعون بما يقومون به، أو يتظاهرون بالاقتناع لإرضائه؟
يعرّف هوغو ميرسييه، عالِم النفس في المركز الوطني للبحوث العلمية الفرنسي السذاجة بأنها: “قبول وتصديق أخبار لا تقوم على أسس قويّة، أي الاعتقاد بأشياء لم يكن ليصدّقها المرء تلقائيًا في أي سياق آخر”.
وفي كتابه “لم يولدوا بالأمس” أظهر هوغو مرسييه أن المرء عادةً هو أقل سذاجة مما يتصوّر البعض، فهو في الواقع، يميل إلى قبول ما يؤمن به بالفعل، وما يناسب مصالحه الشخصية، وما يبدو له منطقيًا، وما لا يعيره أهمية كبيرة في حياته.
ويقول مرسييه: “بشكل عام، لا يصدّق الإنسان الأشياء التي يروّج لها إلا بالمناسبات النادرة، وباتباع المروّجين لاستراتيجيات لا لبس فيها، وعندما تكون الرهانات منخفضة والرسالة تتناسب مع مواقفه وآرائه”.
من هنا فإنّ السياسيين والزعماء والمسؤولين ليسوا متلاعبين ولا مؤثرين، إنما أشخاص، غالبًا ما يكونوا على دراية بما يريد أتباعهم سماعه.
هذا ويبقى علينا لتجنّب الوقوع في شراك المخادعين الدجالين، علينا أن نعي متى يجب أن نشكّك بالمعلومة التي تصلنا، وضرورة ممارسة النقد الذهني، حتى لا يعتقدوا أن بإمكانهم التلاعب بثوابتنا ومبادئنا والتأثير على خياراتنا واستقلاليتنا والاستخفاف بمعتقداتنا.