"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث

هل الإنسان كريم بالفطرة؟

كريستين نمر
الثلاثاء، 8 أغسطس 2023

هل الإنسان كريم بالفطرة؟

يروي أحد أصدقائي الظرفاء، بأنّ زوجته تجادل بائع الخضار على مبلغ زهيد من المال لتعود وتغدق عليه مبلغًا مضاعفًا لثمن مشترياتها منه، لأنه أعانها في وضع الأكياس في السيّارة.

إنّ هذا التناقض في السلوك يطلق عليه في علم النفس اسم “الحسابات العقليّة” حيث يدير المرء حساباته بطرق تبدو في غالب الأحيان غير منطقيّة.

ويفيد بعض الباحثين، بأنّ الإنسان إذا كان في جوهره، كريمًا ومعطاءً ومتسامحًا، لا يمكن أن يتغيّر، مهما كانت التجارب التي واجهها خلال فترة طفولته مؤلمة ومروعة، إلا أنّ تيّارًا آخر يرى أن استنتاجهم هذا بُنيَ على انحياز معرفي وتجارب فردية، غالبًا ما يقع فيها الباحثون، وتسمّى “الخطأ الأساسي في الاستناد”، بحيث اعتبروا أنّ سلوك المرء، يعكس حقيقة جوهره وصفاته الداخلية، متغافلين عن الظروف التي أدّت إلى تصرّفه هذا.

فعلى سبيل المثال، يخبر أحدهم بأن كان لديه الحظ بالفوز بمبلغ متواضع من المال في العمل، وللتعبير عن فرحته وامتنانه، قام بشراء حلوى ومشروبات ووزّعها على زملائه.

فهل يعتبر سلوكه هذا كرمًا، أم أنه مجرد حساب سياسي انفعالي؟

قد يأتي الردّ من قبل الأكثرية بأنه دليل كرم، لأنّ ما قام به ينمّ عن سخاء، وعن حسن نيّة في إسعاد زملائه، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: لماذا لم يقم بمبادرته هذه باستخدام أمواله الخاصة قبل فوزه بالجائزة إذا كان كريمًا إلى هذا الحدّ؟

الجواب عن هذا التساؤل يتم العثور عليه في ما يسميه الاقتصاديون السلوكيون ب “الحسابات العقليّة”، التي تظهر في سهولة توزيع المرء للأموال التي لا يعتبرها ملكًا له، وهذا هو الانحياز الذي يؤثر على العديد من التجارب التي تهدف إلى قياس الكرم والسخاء.

ثمّة اعتقاد أن سلوك الناس ينبع أساسًا من طبيعتهم الداخلية أو من صفاتهم الشخصية، في حين أنه في كثير من الأحيان الظروف هي التي تحدّد أفعالهم

ووفق آرائهم، يستند توزيع المال الذي يمتلكه المرء وينفقه، على حسابات مختلفة في عقله، فالمبالغ التي يكتسبها من جهده اليومي لا تندرج في نفس خانة المبالغ التي يحصل عليها عن طريق ألعاب الحظ مثلًا، لذلك غالبًا ما نرى ربحًا كبيرًا تحقّق في الكازينو، يتلاشى في الدقائق التالية، فكم من لاعب راهن على مبلغ صغير من أمواله الشخصية للتسلية، وما إن يحقّق أرباحًا بمئات أو آلاف الدولارات مثلًا، حتى يبدأ الرهان بمبالغ أكبر؟ وهذا يؤكد أنّ السلوك الشخصي للأشخاص لا ينبع أساسًا من طبيعتهم الداخلية أو من صفاتهم الشخصية، إنما من الظروف التي تحدد أفعالهم.

يقول الباحثون: “بالنسبة لهذا اللاعب، فإنّ هذه الأوراق الماليّة لم تعد لها نفس القيمة التي كانت لديها في محفظته عند دخوله إلى الكازينو، وبالتالي فهو لن يخالجه الشعور ذاته في حال خسرها عند إعادة اللعب بها، فالمبلغ الذي لم يكن بحوزته عند وصوله إلى صالة اللعب، لا يمكن أن يعتبره له، فهو لا يدخل في حسابات الخسارة لأنه أساسًا، لم يكن له يومًا”.

ولفكّ لغز الدمج بين مفهوم الحسابات العقلية هذا، ابتكر عالم النفس السويسري إيف – ألكسندر تالمان لعبة طلب فيها من المشاركين توزيع مبالغ من المال كانوا قد حصلوا عليها بجهدهم الشخصي، وأخرى وزّعت عليهم كهبة خلال الدراسة، يقول تالمان: “المثير للاهتمام، إنّ أكثر من ثلثي المشاركين لم يمتنعوا عن إعطاء زملائهم الأموال فحسب، إنما رفضوا أيضًا تقاضي أي مبلغ منهم، ما يظهر بوضوح أنّ المرء يتصرّف بشكل مختلف مع المال الذي يتقاضاه مقابل أتعابه، والمال الذي يحصل عليه من دون تعب”.

من هنا فإن سلوك المرء قد يأتي بناء على الظروف التي فرضت عليه، ولقد صدق من قال بأن “الظروف قد تجعل من النزيه لصًّا”.

المقال السابق
مات سحقًا تحت آلاف قوالب الجبن.. نهاية مأساوية لمنتِج أجبان
كريستين نمر

كريستين نمر

محرّرة وكاتبة

مقالات ذات صلة

"مفترس في هارودز" وثائقي يتهم محمد الفايد باغتصاب موظفات وابتزازهن

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية