في آخر إطلالة له، وكانت قد انفجرت أجهزة “البايجر” و”التوكي ووكي” بمن وزعها “حزب الله” عليهم، قال السيّد حسن نصرالله إن إسرائيل كانت تعتقد بأنّ قيادات “المقاومة” تستعمل هذه الأجهزة، ولكنّ ظنّها قد خاب وفشلت في أن تلحق الأذى الذي كانت تنشده لزرع الفوضى والفصل بين القيادة والميدان وتشتيت القدرات التنظيمية. يومها، فهم الجميع، وعن حق، بأنّ الضرر كان ليكون جسيمًا جدًا لو أنّ هذه العملية المخابراتية المعقدة قد نالت من القيادات. ومن أدرى بشعاب “حزب الله” أكثر ممّن أفنى عمره فيه، وبينها إثنان وثلاثون سنة في سدّة القيادة.
وفي أثناء “حرب لبنان الثانية” في تموز 2006 وبعدها، تحدث نصرالله، مرارًا وتكرارًا، عن إنجاز حققه “حزب الله” في أولى ساعات الهجوم الإسرائيلي. وقد تمثل هذا الإنجاز، كما شرح نصرالله، في مسارعة قيادات “حزب الله” إلى الانتفال الى أماكن آمنة، ممّا فوّت الفرصة على “الصهاينة” وحال دون انقضاضهم على “العمود الفقري” ل” المقاومة”.
ولم يخلُ، منذ تحدث نصرالله عن ذلك، أيّ تحليل قدمه “الإستراتيجيون الدعائيّون” المعتمدون من “حزب الله”، من شرح أهمية “هذا الإنجاز”. وكنموذج عن ذلك، وفي مقال نشره، في 18 آب 2006، العميد أمين حطيط الذي توفّاه الله قبل أسابيع بعد معاناة مع المرض، ورد بأن أحد أبرز النقاط في الخطة التي وضعها الجيش الإسرائيلي لحرب تموز تمثل في الآتي:” اغتيال قادة حزب الله في منازلهم بتدميرها عليهم، ثم الانقضاض على مراكز القيادة والاتصال لشل الحركة وتفكيك التنظيم عبر الفتك بقيادته وخلق الفوضى والتشتت فيه “.
وأضاف حطيط، وهو كان قبل ذلك في الجيش اللبناني وعلى صلة وثيقة بحزب الله في آن، شأنه شأن كثيرين من كبار الضباط في الجيش: “ظهر أنّ المقاومة لم تكن غافلة عن النوايا الإسرائيلية، فاتخذت من التدبير ما جنب بنيتها وأسلحتها وقيادتها أي ضرر من الفتك الإسرائيلي التدميري”.
لماذا هذا التذكير بما قيل وتكرر قبل أيّام وقبل سنوات؟
يحاول البعض، سواء في إيران أو في لبنان، ومن خلال ضخ سياسي وإعلامي ودعائي، وكان آخر المشاركين فيه نائب الأمين العام ل”حزب الله” الشيخ نعيم قاسم، في الكلمة التي قرأها، بعد ظهر الإثنين، في أوّل إطلالة لمسؤول في هذا الحزب بعد اغتيال الأمين العام، ( يحاول) تصوير ما حصل، منذ اغتيال القائد العسكري ل”المقاومة الإسلامية في لبنان” فؤاد شكر، مرورًا بـ”خليفته” إبراهيم عقيل، وصولًا إلى ما بعد اغتيال نصرالله، بأنّه، بعد وضع العواطف جانبًا، بأنّه لم يؤثر على “حزب الله” المستمر في عمله، كما لو أنّ شيئًا لم يحدث.
في واقع الحال هذا غير صحيح، ولذلك فإنّ كلمة نعيم قاسم، أصابت الموالين ل”حزب الله” بإحباط شديد، ألهاهم عنه، ولو لفترة وجيزة، الهجوم الصاروخي الإيراني على إسرائيل.
ثلاث مسائل يمكنها تفسير هذا الإحباط الشديد.
المسألة الأولى تتمثل في أنّ “حزب الله”، وفق ما تبيّن من الكلمة التي قرأها قاسم، يعتبر أنّ قدرته على إرسال صليات صاروخية الى إسرائيل “إنجاز”، على الرغم من أنّها عملية “خجولة” في ظل هذه الحرب الفتاكة التي تشنها إسرائيل، ولا يمكن، بأي حال من الأحوال، أن تكون متناسقة مع اغتيال شخصية بحجم نصرالله ورمزيته، ولا مع تهديم متواصل لأجزاء مهمة ومرافق حيوية في الضاحية الجنوبية لبيروت ، ولا حتى مع تنفيذ جولة تهديم شاملة في الجنوب والبقاع لمنازل بيئة الحزب اللصيقة التي أصبح ما يقارب المليون شخص منها نازحًا، ناهيك عن آلاف الضحايا والمعوقين والجرحى.
في الأسابيع القليلة الماضية، كان الموالون ل”حزب الله” في أجواء مختلفة. لقد ربّاهم نصرالله على “معادلة الردع الفظيع”: تدمير الضاحية يقابله تدمير تل أبيب.
إذًا، هذا سبب جوهري لإحباط كبير، يناقض القول بأنّ الأمور تسير على ما يرام!
المسألة الثانية التي لا يمكن أن تمر مرور الكرام، أنّ “حزب الله” وخلفه الجمهورية الإسلامية في إيران التي فقدت في عملية اغتيال نصرالله قائد فيلق القدس في لبنان، بعدما كانت قد فقدت في تفجيرات “البايجر” عين سفيرها في لبنان، يظهران عاجزين عن تعيين أمين عام جديد خلفًا لنصرالله. بالنسبة لهؤلاء خطورة العجز لا تكمن في أنها ناجمة عن مشاكل داخلية، بل عن رعب من أن تقدم إسرائيل على اغتياله هو الآخر، فور تسليمه المنصب.
وهذا يعني أنّ “حزب الله” و”الحرس الثوري” يعترفان بعجزهما عن وضع حد لأخطر اختراق مخابراتي في تاريخ الشرق الأوسط.
أمّا المسألة الثالثة فتتمثل في إثبات “حزب الله” بأنّه لم يعد مؤهلًا لتنظيم تشييع يليق بشخصية بحجم ورمزية نصرالله. عمليًّا، هو متروك في “البرّاد”. وهذه إشارة الى أنّ “حزب الله” أصبح يخشى حتى من تشييع قائده. يترك جثمانه يبرد ومعه تبرد الهمم والعواطف.
لماذا نقول كل ذلك؟
بطبيعة الحال، لا يمكن أن نكون في وضعية من يضع ملحًا على الجرح. بل واجبنا أن نقرأ الوقائع كما هي حتى نسمح باستخلاص الدروس كما يفترض أن تكون.
لم يخطئ الشيخ نعيم قاسم، في ختام الكلمة التي ألقاها، عندما قال إن جميع اللبنانيين “في مركب واحد”.
ولأنّه لم يُخطئ في استنتاجه هذا، فإنّ من حق من ألحقهم “حزب الله” بركبه، من دون التوقف عند رؤيتهم للأمور ورأيهم في ما يحصل، أن يكونوا شركاء حقيقيين في وضع مسار “هذا المركب”، لأنّ مخاطر غرقه باتت كبيرة جدًا. في الأسابيع القليلة الماضية على الأقل، ثبت بما لا يقبل أي شك، أنّ “حزب الله” لم يعد مخوّلًا أن يكون قبطان “هذا المركب”، فهو سار به الى محيط هائج، على الرغم من وعوده المتكررة بأنّه لن يفعل لأنّ قدرته على الردع هائلة. ولهذا، على “حزب الله”، ومن أجل مصلته ومصلحة لبنان، أن يتراجع خطوة الى الوراء، والحل متوافر في تنفيذ القرار 1701 الذي كان الحزب في العام 2006 من صنّاعه.
إنّ “حزب الله” إزاء ما يحصل ويمكن أن يحصل، بات ملزمًا أن يُقلع عن واحدة من أسوأ عاداته، وهي التي قادت “هذا المركب” الى تخوم “مثلث بيرمودا”: كتاب ة التعهدات ومن ثم الطلب من شركائه أن يبلّوها ويشربوا ماءها!