يبدو أن الإنسان لن يستطيع تناول طعامه بهدوء بعد الآن، فكم الدراسات التي تنشر يومياً عن عدد هائل من الأطعمة التي اعتدنا عليها، والتي أصبح وجودها جزءاً من حياتنا، قد تصبح مصدر إزعاج وخوف وارتباك نفسي وجسدي.
فبعد سنوات من انتشار النظام الغذائي المعروف بالمايكروبيوتيك، والذي يعتمد على القمح الكامل والحبوب الكاملة بشكل عام، نشرت عام 2011 ورقة بحثية في مجلة أميركية متخصصة بأمراض الجهاز الهضمي، بعنوان “الغلوتين يسبب أعراضاً معوية من دون الإصابة بالداء البطني الزلاقي”، وذكرت الورقة أن “الغلوتين يعد مسبباً لأعراض القناة الهضمية والتعب”، وهذه كانت بداية تسليط الضوء على الأغذية الخالية من الغلوتين أو ما عرف بـ “غلوتين فري ”، والمتهم الأول كانت منتجات القمح والشعير وبعض الحبوب.
الغلوتين
لقد ذكر الغلوتين للمرة الأولى من قبل العالم Beccari عام 1728، وهو عبارة عن بروتين يتكون من الغليادين ولديه شكل الدوائر والغلوتينين ولديه شكل السلاسل، ويوجد في القمح والحبوب والشعير، فهو المسؤول عن القوام المرن للعجين والخاصية المطاطية للأطعمة المصنوعة من دقيق القمح، إذ يبقى الغلوتين خامداً إلى أن يوضع الماء مع الدقيق ويبدأ العجن، وقد لوحظ أنه كلما زادت وطالت عملية العجن كلما زادت نسبة الغلوتين.
وقبل هذه الدراسة كان يمنع تناول القمح والحبوب عن فئة محددة ونادرة من الأشخاص، لما يسببه الغلوتين في هذه الأطعمة من مشكلات صحية، كالداء البطني أو الزلاقي والمعروف أيضاً بـ”السيلياك” celiac disease، إذ يقوم جهاز المناعة بمهاجمة أنسجة الأمعاء الدقيقة، ما يسبب ضرراً لبطانة الأمعاء، ويجعلها عاجزة عن امتصاص بعض العناصر الغذائية.
ولكن مع وجود هذه الدراسة، ظهرت حالة أخرى أقل حدة أطلق عليها الحساسية تجاه الغلوتين gluten sensitivity أو عدم تقبل الغلوتين، والتي بخلاف الحال مع الداء البطني، لا تضر الأمعاء الدقيقة، لكنها تثير بعض الأعراض غير المريحة، مثل التشنجات والشعور بالإرهاق والانتفاخ وآلام بالمعدة.
الصيت ا لسيئ
وفي مايو (أيار) عام 2013، أعاد بيتر غيبسن صاحب الورقة البحثية الخاصة بعدم تحمل الغلوتين، نشر دراسة لاحقة تراجع فيها عن النتيجة التي توصل إليها مسبقاً، وكانت بعنوان “لا توجد تأثيرات سلبية للغلوتين على المرضى المصابين بتحسس غلوتين لا بطني بعد اتباعهم نظاماً غذائياً منخفض الكربوهيدرات قصيرة السلسلة القابلة للتخمر وصعبة الامتصاص”. هذه الكربوهيدرات تعرف اختصاراً بفودماب FODMAP، وتشير الدراسة إلى أنه يسبب هذه الأعراض وليس الغلوتين، فطلب الباحثون من الأشخاص اتباع نظام غني بالغلوتين، ثم غيروا النظام لنفس الأشخاص ليصبح خالياً من الغلوتين ولاحظوا التأثيرات، واكتشفوا أن الغلوتين لم يكن مسؤولاً عن ظهور الأعراض المذكورة سابقاً.
وعلى رغم أن هذه الدراسة ناقضت سابقتها وهي للباحث نفسه، إلا أنها لم تشفع للغلوتين، فقد انتشر صيته السيئ في أرجاء العالم، وظهر معه سريعاً المختصون والمجربون الذين تحدثوا عن تجاربهم مع الغلوتين، ودعوا الناس وبخاصة أولئك الذين لديهم متلازمة القولون العصبي، إلى التوقف عن تناوله لتأثيره السلبي.
كما فتحت ساعات البث التلفزيونية للتحدث عن الغلوتين، وظهرت الكتب التي تؤيد هذه الأفكار وتثبتها، ودرج في “كذبة” الغلوتين
وعليه فقد دخلت تجارة المنتجات الخالية من الغلوتين من أوسع أبوابها في كل أنحاء العالم، حتى أصبح القاصد يجد في الدول النامية منتجات خالية من الغلوتين، الأمر الذي دفع عدداً من الأطباء والمختصين للوقوف في وجه ما اعتبروه “هجمة شرسة” على الغلوتين، معتبرين أن الغرض الأساسي لهذه الإشاعة ليس له أساس علمي ويندرج في خانة الربح فقط.
فحبة القمح التي تحوي 10 في المئة من نسبة الغلوتين، يقبع في داخلها عدد كبير من العناصر التي قد يكون لها دور في ما تسببه من إزعاج لبعض الأشخاص، وليس الغلوتين بحد ذاته.
وقد طرح منذ مدة كتاب اسمه “كذبة الغلوتين وأساطير أخرى حول ما نأكله” THE GLUTEN LIE And other myths about what you eat ، وأهم معلومة جاءت في هذا الكتاب أنه توقع إدراج مفهوم تجارة الخوف من الأغذية، فذكر أن هناك مجموعات تستفاد من خلال إخافة الآخرين من بعض الأغذية من دون تقديم معلومة علمية يتم الاستفادة منها بشكل عملي.
وفي مقدمة هذا الكتاب تم الرد على كتابين نُشِرا سابقاً، وقد نالا تسويقاً وإعلاناتٍ ضخمة عند صدورهما، الأول هو كتاب WHEAT BELLY والثاني هو GRAIN BRAIN والخلاصة من هذين الكتابين أنهما يضعان القمح في مكان المسبب الرئيس لكثير من الأمراض، وعلى رغم صدور أكثر من 50 ورقة علمية ترد على ما جاء في هذين الكتابين، لكن لم يلق بالاً لها، بل سعت الشركات الم نتجة للمواد الخالية من الغلوتين إلى زيادة انتشارهما.
وقد شجع ظهور بعض المشاهير الذين روجوا لهذه المنتجات في غذائهم، مثل الليدي غاغا وفكتوريا بيكهام وجوينيث بالترو وكيم كارداشيان، إلى انتشار مفهوم الغلوتين فري واتباع نظام صحي خال منه، كما أسهمت وسائل التواصل الاجتماعي في هذا الانتشار الساحق.
سوق رابحة
ولم يتوقف الأمر هنا فقط، بل ذكر كتاب كذبة الغلوتين، أن كل من كاتبي الكتابين قد ظهرا على شاشات التلفزيون بما يزيد على 50 مرة لكل واحد منهما، وقد ربط بين مالكي وسائل الإعلام والشركات المنتجة للمواد الخالية من الغلوتين.
كما تكلمت جامعة هارفورد عن هذا الموضوع وذكرت أن أرباح هذه الشركات تضاعفت من عام 2013 حتى عام 2015، إذ وصلت الأرباح إلى حوالى 12 مليار دولار، وذلك عبر إقناع الجميع بأن الغلوتين مضر لهم، فصنعوا منتجات خالية منه وسعرها أعلى بكثير من أسعار المواد الغذائية الطبيعية التي تحوي غلوتين، ومن المتوقع أن تصل سوق هذه المنتجات إلى 36 مليار دولار عام 2026.
لذلك لا بد من معرفة أن الغلوتين قد يسهم في الشعور ببعض الأعراض المزعجة التي تتوافق مع أعراض عدد من الأمراض، كمتلازمة القولون العصبي وحساسية الفركتانز التي تشبه في عوارضها حساسية الغلوتين وغيرها، ولكن لح د الآن لا شيء مثبتاً علمياً بشكل واضح وصريح، إلا الداء البطني الزلاقي الذي يعتبر نسبة المصابين به لا تتعدى الواحد من كل مئة شخص.