لا شك أننا تسرعنا كثيراً عندما ظننا أن مواقع التواصل أصبحت برلمانات الشعوب المخنوقة المحرومة من الديمقراطية وحرية التعبير في العديد من بلدان العالم النامي خاصة. لقد ظننا، وكل الظن إثم في هذه الحالة، أن مواقع التواصل مكّنت مليارات البشر من التعبير عن قضاياها في منصات حرة مفتوحة بعيدة عن مقص الرقيب وأعين «الأخ الأكبر» في الديكتاتوريات، وما أكثرها في عالم اليوم، حيث أثبتت دراسات حديثة أن العالم لا يتقدم مطلقاً على صعيد الحريات والديمقراطيات، بل يعاني نكوصاً خطيراً جداً في هذا المجال، فقد تراجع عدد الديمقراطيات وبدأ يزداد عدد الديكتاتوريات بشكل ملفت، فبعد نهاية الحرب الباردة في بداية تسعينيات القرن الماضي كان عدد الدول غير الديمقراطية في العالم أربعين دولة، أما اليوم فقد صار إحدى وخمسين دولة، والعدد في ارتفاع مستمر حسب مركز بحوث (في ديم). وهذا يعني أن الحاجة باتت ملحة جداً لإيجاد منابر إعلامية حرة بعيداً عن وسائل الإعلام الرسمية التي تتحكم بها الديكتاتوريات، خاصة مع صعود نجم الصين وروسيا وأذنابهما في الشرق الأوسط وغيره من بقاع العالم. لكن يبدو أن لوثة الديكتاتورية وتكميم الأفواه والتحكم بالمسار الإعلامي لم تعد محصورة في الدول الشمولية الصاعدة، بل باتت تلوث (الديمقراطيات) التي تمتلك ما يسمى «مواقع التواصل الاجتماعي».
لقد بدأ بريق مواقع التواصل يخف بشكل رهيب، ليس لأنها راحت تميل إلى الجانب التجاري وتتحول شيئاً فشيئاً إلى شركات تجارية ربحية فاقعة فحسب، بل لأنها بدأت تمارس رقابة صارخة على المحتوى، لا بل تحولت خوارزميات بعض مواقع التواصل إلى أسوأ رئيس تحرير يمكن أن تواجهه في أي صحيفة حزبية تابعة لنظام ديكتاتوري بغيض، فعندما تُصمم خوارزميات المواقع بشكل معين بحيث توزع وتهتم بما يحلو لها من منشورات وتمنع انتشار ما يخالف توجهاتها ووجهة نظرها، فهذا يعني أنها توجه المتابعين ليكتبوا حسب التوجهات والخط التحريري للمواقع كأي جريدة أو وسيلة إعلامية موجهة. بعبارة أخرى، فمواقع التواصل ليست حرة ومفتوحة كما يُشاع، بل مُغرضة وأصحابها لديهم سياسة تحريرية صارمة مثلهم مثل أي مؤسسة إعلامية ديكتاتورية.
كم كنا مغفلين عندما ظننا أن كل إنسان قد تحول إلى ناشر في عصر السموات المفتوحة، وأنه بمجرد أن يفتح حساباً على مواقع التواصل أو موقعاً على الإنترنت فقد أصبح يخاطب العالم من أقصاه إلى أقصاه. لا أدري لماذا ابتلعنا تلك الخرافة وتلك الكذبة الكبيرة وروجنا لها وهددنا بها وسائل الإعلام الرسمية في العالم العربي وكأنها ستقضي على الإعلام الموجه. ليس صحيحاً مطلقاً أن فتح حساب في مواقع التواصل يمكن أن يوصل صوتك لأحد، فقد تكتب مئات المنشورات التي لا يراها إلا أنت وبضعة أصدقاء، لأن رئيس التحرير (الخوارزمي) في المواقع لا يسمح لك بالوصول إلا لعدد قليل جداً من المتابعين إذا التزمت بتوجهاته، فما بالك إذا خالفتها أو تمردت عليها. وهنا يبرز السؤال الكبير: ما فائدة أن تفتح حساباً على مواقع التواصل وتجمع حولك عشرات الملايين من المتابعين، ثم تجد نفسك لا تصل إلى واحد بالألف من متابعيك وربما أقل أحياناً. أليس من المضحك مثلاً أن يكون لديك عشرون مليون متابع في موقع ما، ثم تتفاجأ في آخر النهار أن منشوراتك لا تصل إلا إلى ألف متابع أو أكثر قليلاً؟
ماذا عن بقية العشرين مليوناً؟ لماذا لا تصلهم منشوراتك طالما هم قرروا متابعتك والاهتمام بما تكتب وتنشر؟ لماذا تصدع مواقع التواصل رؤوسنا وهي تدعوك للنشر والتواصل مع أكبر عدد من رواد المواقع، وعندما تجمع ملايين المتابعين من حولك، تتوقف المواقع عن توزيع منشوراتك للمتابعين، لا بل تحجبها تماماً أحياناً؟ قمة المهزلة فعلاً. بعبارة أخرى، فإنه ممنوع عليك أن تعبر عن رأيك بحرية كما تدعي المواقع. لا أبداً، بل مفروض عليك أن تجاري الخط التحريري للموقع وتوجهاته السياسية والثقافية والاجتماعية، وإذا حاولت أن تتمرد على منطلقات الموقع ستجد نفسك منبوذاً في أحسن الأحوال أو مطروداً من الموقع وكاتباً غير مرغوب به على الأثير الالكتروني. ألا تفرض بعض المواقع علينا وجهات نظرها السياسية تجاه مئات القضايا بصفاقة عز نظيرها؟ لماذا تُصدر قوائم بآلاف الأشخاص الذين إذا فقط ذكرت اسم أحدهم في منشور تتعرض لعقوبة صارمة تمتد لسنة كاملة؟ لماذا تريدون من مليارات البشر أن تجاري وجهة نظركم في هذه القضية السياسية أو تلك؟ يا جماعة الخير، من تعتبرونه أنتم إرهابياً قد يعتبره أبناء جلدته بطلاً قومياً. لماذا تصنفون القضايا حسبما يوافق مصالحكم وتوجهاتكم السياسية، وتعتبرون كل مخالف لكم في الرأي الإعلامي رجساً من عمل الشيطان؟ أليس من السخف أن تعاقب صحافياً أو تحظره من النشر أو تقلل توزيع منشوراته إلى الصفر لمجرد أنه ذكر في أحد «بوستاته» اسم شخص يصنفه الموقع تصنيفاً سيئاً؟ والمضحك في الأمر أنك تتعرض للعقوبة من رئيس تحرير الموقع ليس لأنك امتدحت هذه الشخصية أو تلك، بل لأنك فقط ذكرت اسمها حتى بشكل سلبي. يا جماعة الخير، أنا صحافي وأشد على أيديكم وأتفق معكم بأن هذه الشخصية أو تلك إرهابية وابنة ستين ألف إرهابي، دعوني فقط أشتم الشخصية التي تكرهونها. لماذا تمنعونني من شتم شخصية أنتم تعتبرونها شيطاناً رجيماً؟ ما هذه الخوارزميات الغبية التي تعاقبك فقط لمجرد ذكر اسم شخص أو جماعة؟ لا نمانع أبداً لو امتدحنا شخصية شيطانية وقمتم بمعاقبتنا على ذلك، لكن المشكلة أنكم تكممون أفواه ملايين البشر ولا تريدونهم حتى أن يتفوهوا باسم بعض الأسماء التي شيطنتموها ووضعتموها على قوائم سوداء في مواقعكم التي تزعم الانفتاح وحرية التعبير؟ ثم ألا يحق لنا كصحافيين أن نكتب عن أي قضية أو أي شخصية دون الاصطدام بخطوطكم الحمراء التي لا تختلف مطلقاً عن خطوط صحيفة «برافدا» السوفياتية البائدة أو صحيفة «البعث» السورية سيئة الصيت المؤدلجة والمتزمتة سياسياً وعقائدياً؟
هل تذكرون كيف كانت مواقع التواصل توزع منشورات «الثوار» أثناء انتفاضات ما يسمى الربيع العربي على ملايين الرواد يومياً وتفسح المجال واسعاً لكل من يريد أن يحرض على الثورة؟ ألم تحتضن المواقع كل الجماعات التي كانت تدير الثورات وتوفر لها التنظيم والانتشار الإلكتروني لتصل إلى الملايين؟ لماذا بعد سنوات حذفت بعض مواقع التواصل كل الفيديوهات والمنشورات التي كانت تدعو للثورة؟ لماذا وضعت أسماء بعض الذين احتضنتهم وروجت لهم على قوائم سوداء لاحقاً؟ ألا يعني ذلك أن هناك جهات كبرى تحرك المواقع وتفرض عليها سياسات تحريرية مناسبة لمرحلة ما، ثم تفرض عليها سياسات مغايرة بعد أن تكون السياسات القديمة قد أدت المطلوب؟ في يوم من الأيام كان الزعماء الغربيون يصفون من يسمون بالمجاهدين الأفغان بمقاتلين من أجل الحرية عندما كانوا يخدمون بعض المشاريع، أما اليوم حاول أن تذكر اسم الحركة الأفغانية الشهيرة (طال…) مجرد ذكر، فتتعرض لعقوبة صارمة من هذا الموقع أو ذاك. (لاحظوا أنني لم أتجرأ حتى على كتابة اسم الحركة كاملاً خوفاً من عقوبة خوارزميات مواقع التواصل فيما لو نشرت المقال على إحداها).
ثم ألا تمارس دول عديدة تأثيراً صارخاً على المواقع بحيث تخنق الأصوات الحرة والمعارضة لسياساتها، أو تحجب منشوراتها أو تجمد حساباتها أو تحاربها بطرق عديدة تفقأ العيون؟
وكي تفهموا أن هذه المواقع ليست حرة ومفتوحة، بل لناس وناس، حاولوا أن تنشروا منشوراً مشابهاً لمنشور نشره أحد المحظوظين فسترى، أن منشورك لم يصل لخمسة أشخاص، بينما المنشور الذي نشره غيرك حصل على عشرين مليون مشاهدة حتى لو كان المنشور عبارة عن إشارة استفهام؟
القدس العربي