برز في اليومين الماضيين تحرّك النيابة العامة في البقاع ضدّ صاحب عمل تبعًا لوفاة عاملة أثيوبية تعمل لديه، في إحدى مستشفيات البقاع. فقد ادّعى النائب العام منيف بركات على صاحب العمل المذكور بالتسبّب بموتها سندًا للمادة 550 من قانون العقوبات الذي لا تقلّ عقوبته عن 5 سنوات أشغال شاقة. وقد بنَت النيابة العامة ادّعاءها على أنّ صاحب العمل تسبّب بموتها من دون نيّة القتل، بفعل ما اعتبرته أعمال عنف وإهمالًا في تحمّل مسؤولية تأمين العلاج لها. وهو القرار الأوّل من نوعه في وفيّات العاملات اللواتي غالبًا ما يتمّ اعتبار مقتلهنّ انتحارًا أو لا يتمّ التحقيق في وفاتهنّ عندما لا يكون هناك أدلة على وقوع اعتداء مباشر أو أذى واضح على أجسادهنّ..
ولم يكتفِ بركات بالادّعاء على صاحب العمل، بل ادّعى أيضًا على الطبيب الشرعي الذي أغفل وجود كدمات وخدوش على جثة العاملة تبعًا للكشف عليها، وذلك على أساس المادة 466 من قانون العقوبات (إعطاء شهادة كاذبة معدّة لكي تقدّم إلى السلطة العامة)، والتي تصل عقوبتها إلى الحبس بين شهرين وسنتين. فما هي حيثيات هذه القضية وتفاصيلها؟ علمت “المفكرة القانونية” أنّ العاملة الأثيوبيّة مولو ميكاشا ناغاسي، مواليد 1988، والدتها آرسي، قد نُقلت ليل 6 تموز 2023 إلى مستشفى د. حامد فرحات في كامد اللوز في البقاع الغربي بحالة صحّية سيّئة: انخفاض كبير في ضغط الدم، ارتفاع في درجة الحرارة، إنهاك جسديّ تتحرّك معه بصعوبة، والأهمّ أوجاع شديدة تبدو غير قادرة على تحمّلها. “باختصار كانت في ما يشبه حالة الاحتضار”، وفق ما أكدت مصادر طبية لـ “المفكرة”. ساعة واحدة مضتْ قبل أن تلقى حتفها. ماتت مولو التي مضى على وجودها في لبنان 7 سنوات. ويقال في بلدة السلطان يعقوب، حيث عملت كل ذلك الوقت، إنّها لم تغادر منزل مخدوميها حتى لزيارة عائلتها. على أثر وفاة مولو، خاطبت المستشفى مخفر بيادر العدس، الأقرب إلى بلدة السلطان يعقوب حيث تعمل، وتمّ طلب الطبيب الشرعي م.ر. للكشف على الجثة وفتح محضر تحقيق في الواقعة، فانتهى هذا الأخير إلى تنظيم تقرير أشار فيه إلى أنّ موتها حصل نتيجة إصابتها بمرض، رُجّح أنّه سرطان. وبالرغم من تقرير الطبيب الشرعي وعدم وجود اعتداء مباشر عنيف آنيّ على مولو وظاهر قد يكون قد تسبّب بموتها، توسّع المخفر بشكل غير مسبوق في التحقيق بإشراف النائب العام بركات الذي أرسل الأدلة الجنائية للكشف على جثمانها. وفور وصول الأدلة الجنائية إلى المستشفى للكشف على مولو، عاد الطبيب الشرعي م.ر. إلى المخفر، راغبًا في إضافة بعض التفاصيل على تقريره الأوّل بذريعة النسيان. أثبتت الأدلة الجنائية وجود خدوش وكدمات على جسد مولو، فأوقف صاحب العمل “م.أ.” والطبيب الشرعي على الفور، كما كلّف المدعي العام بركات الطبيب الشرعي سعيد طربيه الكشف على الجثة مجددًا، ووضع تقرير طبي بحالتها ووضعها.
وعليه، لحظ الطبيب طربيه، وفق ما علمت “المفكرة”، وجود آثار سحجات وخدوش على وجه ورأس مولو وعلى ظهرها تعود إلى نحو عشرة أيام من وفاتها، معتبرًا أنّها دليل على تعرّضها للعنف، إذ لا يمكن أن تكون قد ضربت ظهرها بنفسها. وبناء على طلب القاضي بركات، أخذ طربيه عيّنات من دم مولو وأرسلها إلى أحد المختبرات في بيروت حيث تبيّن وجود خلل في وظيفة نخاع العظام المسؤول عن إنتاج خلايا الدم، بمعنى أنّ هناك خللًا في إنتاج خلايا الدم. وهي حالة مرضية لا يمكن أن تظهر في يوم واحد وتؤدّي إلى وفاة المريض، كما حصل مع مولو. وأشار التقرير الطبي الذي سطرّه الدكتور طربيه، بعد ظهور نتائج تحاليل الدم، إلى أنّه لو أجرت لمولو تحاليل وتمت متابعة وضعها الصحي لربما اختلف وضعها. ولكن صاحب العمل الذي تعمل مولو لديه زعم أنّها لم تكن تعاني من أي أعراض مشيرًا إلى أنّها “تعبت من كم يوم فقط وارتفعت حرارتها”. واتصلت المفكرة بالطبيب طربيه إلّا أنه رفض التصريح كون الملف في عهدة القضاء.
على ضوء هذه المعطيات، استأنفت النيابة العامة قرارًا سابقًا لقاضي التحقيق في البقاع محمد سلام بإخلاء سبيل صاحب العمل، أمام الهيئة الاتهامية التي قبلت الطعن. هذا مع العلم أنّ النيابة العامة عدّلت على ضوء التحقيقات الجنائية توصيف الجرم المدّعى به ضد صاحب العمل، من جرم “امتناع عن مساعدة شخص في حال الخطر” وهو جرم لا تتجاوز عقوبته سنة حبس (567 من قانون العقوبات) إلى جرم التسبّب بموت إنسان بالضرب أو العنف او الشدة أو بأي عمل آخر مقصود من دون قصد القتل وهو جرم لا تنقص عقوبته عن سبع سنوات في ظلّ معطيات القضية سندًا للمادة 550 من قانون العقوبات. ويتأكّد ذلك من توفّر ظروف مشدّدة منها احتمال إقدام صاحب العمل على أعمال تعذيب أو شراسة ضد العاملة بدليل وجود كدمات على جسدها أو أيضًا عدم إسعافها من الأوجاع التي ربما اجتاحت جسدها بنتيجة مرضها أو أيضًا السعي إلى إرغامها على مواصلة العمل رغم إصابتها بمرض عضال، في شروط استغلال تستمر منذ 7 سنوات وتحتاج إلى مزيد من التحقيق وتحديدًا لمعرفة مدى دفع أجرها الشهري أو تعرّضها لحجز الحرية أو العمل القسري أو حرمانها من الطعام.
ومن جهة أخرى، وإذ يستوجب الاستمرار في ملاحقة الطبيب الشرعي على أساس المادة 466 من قانون العقوبات، حصول قاضي التحقيق على إذن من الإدارة المعنية (وزارة العدل)، فقد تمّ توقيفه ليوم واحد “احترازيا” قبل أن يتم الإفراج عنه.
وبعد اتصال “المفكرة” بالسفارة الأثيوبية التي أكدت عدم وصول أي من الكتب التي وجّهها القضاء إليها عبر البريد، أكّد مصدر مسؤول فيها عن أوضاع العاملات الأثيوبيات في لبنان أنّه توجّه إلى مخفر بيادر العدس وطلب الحصول على محضر التحقيق في وفاة مولو ولكنه أُبلغ بمراجعة القضاء. وأضاف “طُلب منا استلام جثة العاملة ولكنّنا نريد معرفة ما حصل قبل وفاتها”، مشيرًا إلى أنّ السفارة ستبحث في الخطوات التي ستتخذها بعد حصولها على الملف.
سعدى علوه (المفكّرة القانونية)