تقدمت عاملات أجنبيات كثيرات في لبنان في السنوات الأخيرة، بشكاوى ضد المستخدمين بسبب الانتهاكات اللاحقة بهن، كالضرب والاحتجاز القسري وعدم دفع مستحقاتهن، وتعتبر إقامة مثل هذه الدعاوى بمثابة إنجاز للجمعيات الداعمة لهنّ والتي تنادي بإنصافهنّ، لكن ما مصير هذه الدعاوى اليوم؟
تكثر الانتهاكات التي تطاول العاملات الأجنبيات في لبنان، وتستمر الجهات الداعمة لهن بمساعيها لإنصافهن.
حتى الآن تستمر معاناة كثيرات منهن، وإن كانت أعدادهن قد انخفضت في البلاد بصورة ملحوظة بسبب الأزمة الاقتصادية والوضع المعيشي الصعب الذي يعيشه اللبنانيون. أما الجدل الأساس، فيدور دائماً حول نظام الكفالة الذي تتكثف المساعي لتغييره من سنوات عديدة.
فهذا النظام يعطي كامل الصلاحيات لرب العمل فيما يسمح له بالتحكم بالعاملة، بما يشمل حجز جواز سفرها طوال مدة عملها في منزله، من دون أن ننسى الاحتجاز القسري في غالبية المنازل من دون السماح للعاملة بمغادرة المنزل بمفردها، وفي بعض الأحيان حرمانها من أجرها، أو فرض أعمال لا تمت بصلة إلى عملها الأساسي.
لكن الوضع حالياً في لبنان بدأ يتغير، إذ يسهم وجود جهات عديدة داعمة لحقوق الإنسان وحقوق العاملات الأج نبيات في مساعدتهن للتقدم بدعوى ضد مستخدميهن في حال تعرضهن لانتهاكات فتصبح قضاياهن في يد القضاء.
هو تقدم ملحوظ نشهده في هذا المجال، وكان من الصعب تصور أن يتحقق يوماً نظراً إلى الوضع القانوني للعاملة والصلاحيات الواسعة التي يعطيها القانون للمستخدم مما يدفعها في كثير من الأحيان إلى الهرب أو التمرد أو حتى الانتحار عندما تجد الأبواب أمامها مقفلة.
شكاوى والتسوية هي النتيجة
لم تنجح الجمعيات الداعمة للعاملات الأجنبيات في تغيير نظام الكفالة أو تقديم بديل عنه، أقله حتى الآن، لكن يشير المحامي هادي نخول إلى وجود ملفات عديدة لعاملات أجنبيات تقدمن بشكاوى ضد مستخدميهن في السنوات الخمس الأخيرة. ومما لا شك فيه أنه كان للجمعيات دور كبير في دعم مجتمع العاملات في الخدمة المنزلية اللواتي كانت تنتهك حقوقهن من دون حسيب ولا رقيب.
هذا، ويميز بين نوعين من العاملات الأجنبيات، اللواتي يعملن في الخدمة المنزلية ويوجدن في البيوت وترتبط مشكلاتهن بالمنزل نفسه، واللواتي يعملن على حسابهن الشخصي في المنازل وقد يحتجن إلى مساعدة بسبب انتهاكات معينة يتعرضن لها. لذلك، تختلف المقاربة القانونية بين هذين النوعين من العاملات، ويقول “نحن كناشطين في مجال حقوق الإنسان نركز خص وصاً على العاملات الأجنبيات داخل المنازل وعلى نشر الوعي في هذا المجال. أما من يعملن من دون التزام بمنزل معين، فيمكن أن نتبلغ عن الانتهاك الذي طالهن، مع حرصنا على التأكد من صحة المعلومات التي تردنا. وفي هذه الحالة نتقدم بشكوى في المخفر حيث نحضر مع مترجم وفتاة من الجنسية نفسها. كما نحرص على توضيح حقوق الفتاة لها وكل ما يتعلق بالمساعدة التي نقدمها لها”.
في ملفات عديدة، صدر قرار قضائي من النيابة العامة حتى لا تعود العاملة المنزلية إلى بيت مستخدميها بعد الانتهاكات التي تعرضت لها. وتأمين ملجأ آمن لها والتقدم بدعوى في المحكمة، وهذا مما يشكل تقدماً مهماً في هذا المجال. كذلك توصل إلى تسويات كثيرة في الملفات المتعلقة بسداد الرواتب المتأخرة أو في الأقل التوقيع على تعهد بدفع الأجور المتأخرة.
وربما التطور الأهم في هذه القضية أن ما كان يوصف بخطوة “الفرار والسرقة” التي كانت شائعة عند هرب عاملة أجنبية من المنزل لم تعد موجودة ومعتمدة في القانون، وتحولت إلى صيغة ترك مكان العمل مما يعتبره نخول أيضاً إنجازاً.
ومن التطورات الإيجابية التي شهدها هذا الملف تقدم جمعية “الحركة القانونية العالمية” بدعوى لعاملة منزلية إثيوبية بسبب الظروف المعيشية والمعاملة السيئة لها خلال فترة عملها في لبنان في ظل نظام الكفالة. ومن الاتهامات الموجهة في هذه القضية الحرمان من الحرية والتمييز القومي والتعذيب لأكثر من ثماني سنوات والاتجار بالشخص والعمل القسري. وكانت العاملة قد واجهت ضغوطاً، ولم يسمح لها بمغادرة لبنان حتى عام 2019، وبعدها رفعت القضية في عام 2020 سعياً إلى تحقيق العدالة في قضيتها. وتعتبر هذه القضية الأولى التي يجبر فيها الكفيل على الرد على مزاعم الاسترقاق وتجارة الرقيق والتمييز العنصري تجاه عاملة منزلية مهاجرة، ومن المتوقع أن تكون لها آثار بعيدة المدى على نظام الكفالة المطبق في لبنان والمنطقة.
دعاوى كثيرة والنتيجة غير مرضية
من جهتها، تشير المحامية موهانا إسحاق في جمعية “كفى” إلى أن قضايا العاملات الأجنبيات موجودة من أكثر من 20 سنة سواء كانت تتعلق بالتأخير في دفع الأجور، أو في شكاوى ضرب وسوء معاملة، أو حجز حرية. علماً أن القانون المتعلق بجرم الاستعباد والاتجار بالبشر وضع عام 2011 ومن حينها هناك دعاوى، وإن كان عددها قليلاً.
تؤكد إسحاق أنها تقدمت بدعاوى عديدة في السنوات الثماني الأخيرة، لكن هذا لا يعني أن الدعوى تصل إلى نتيجة مرضية دوماً، لأن المطلوب تغيير النظام السائد والذهنية لمكافحة هذه الانتهاكات في حق العاملات الأجنبيات. علماً أن الاتجار بالبشر جريمة يعاقب عليها القانون اللبناني بالسجن لمدة من خمس إلى 15 سنة.
نظام الكفالة
يجيز نظام الكفالة المطبق في لبنان والمنطقة للمستخدم أو الكفيل بحجز أوراق العاملة عند استقدامها. كما أنه يحرمها من حقوقها الخاصة أو من إمكان التواصل مع الآخرين، ويسمح للمستخدم بحجز حريتها من دون أن تكون هناك إمكانية لفسخ العقد. لذلك، تعمل كثيرات في ظروف غير إنسانية ما يعتبرها القضاء بمثابة اتجار بالبشر. لكن لإثبات جريمة الاتجار بالبشر يجب أن تتوافر عناصر الإيذاء والإكراه أو الخداع والاستغلال في العمل مع عدم إمكا نية فسخ العقد.
لذلك، يسعى العاملون في مجال حقوق الإنسان إلى تغيير نظام الكفالة الذي لا يتوافق مع حقوق الإنسان، إذ تبقى كثيرات من العاملات محكومات بأجورهن غير المدفوعة لمدة لا تقل في بعض الأحيان عن 10 أو 12 سنة، وهناك خمس دعاوى تتعلق بهذا النوع من الانتهاكات تشير إليها إسحق. أما إذا غادرت المنزل فتصبح مخالفة للقانون ويزيد مجال استغلالها جراء ذلك. ونسبة 90 في المئة من أصحاب العمل يدعون على العاملة بالسرقة عندما تترك البيت.
طلب المساعدة من الجمعيات
في ظل هذه الظروف تلجأ العاملات إلى جمعيات طلباً للمساعدة. قد يتنبه أحد الجيران أو المعارف لما يحصل معها ويستنجد بالجمعية لمساندتها فتكون دعوى عادية لعاملة، أو يمكن أن تتوافر كل العناصر لتكون دعوى اتجار بالبشر. ويبقى إثبات دعوى الاتجار الهدف الأساس للجمعيات في مساعيها إلى تغيير نظام الكفالة.
وقضية إيلينا هي من هذه القضايا التي تؤكد الظلم الذي يمكن أن تتعرض له العاملة أحياناً، إذ بقيت محرومة من تقاضي أجرها طوال 12 سنة وسط ظروف غير إنسانية عاشتها طوال هذه المدة.
في حديثها لنا تؤكد أن مستخدميها دفعوا نسبة بسيطة من أجرها خلال فترة معينة قبل أن يحجزوا أموالها معهم. علماً أنها حضرت إلى لبنان لتتمكن من إعالة طفلها الصغير الذي عادت إليه بعد 13 سنة ولم يتمكن من التعرف إليها، فقد حرمت من الحديث معه طوال تلك السنوات بسبب قسوة مستخدميها. حتى إنها حرمت من حريتها ومن إمكانية العودة لعائلتها بعد حجز جواز سفرها. كانت تربي أطفال مستخدميها ويقفل عليها الباب بالمفتاح حتى لا تغادر المنزل، ناهيك بتعرضها للإهانات والتهديد والضرب”، كما تقول، وتضيف “الظروف الصعبة التي عشت فيها جعلتني ألجأ إلى من يقدم لي المساعدة، على رغم أنني كنت أخاف أن أغادر وأتعرض لما هو أسوأ. عندها تقدمت بشكوى وتوصلت إلى تقاضي قسم من أجوري بانتظار ما تبقى، وعدت إلى بلادي حيث التقيت ابني للمرة الأولى”.
(كارين إليان ضاهر ـ إندبندنت)