تعالت أصوات اللبنانيين مطالبةً الدولة بالضرب “بيد من حديد”، بعد “غزوة الموتوسيكلات” التي قام بها موالون لكل من “حزب الله” و”حركة أمل” يوم الأحد الماضي، في مناطق معارضة لهم، حيث رفعوا الرايات الحزبية وأطلقوا شعارات طائفية مثيرة للاشمئزاز والفتنة والإنقسام والصدام. ودعا المعترضون على هذه المشهدية إلى عدم التراخي مع هؤلاء “الزعران” ومع كل من يحاول العبث بالأمن والاستقرار، مطالبين بمحاكمتهم بما اقترفت أيديهم. واعتبر البعض أنّ هؤلاء “الموتوسيكليين” ليسوا سوى “عبيد مأمورين”، وأنّ من يجب محاكمته هم “أسيادهم” الذين قرّروا وخطّطوا وأمروا.
فهل يتحمّل هؤلاء الشباب المسؤولية أم أنهم مسيّرون؟ وما رأي علم النفس بذلك؟
تعيدنا هذه التحرّكات إلى خمسين عامًا مضت، عندما نشر عالم النفس الاجتماعي الأميركي ستانلي ميلغرام عام ١٩٧٤ كتابًا بعنوان، “الطاعة للسلطة” “Obedience to Authority” والذي لا يزال يعتبر حتى يومنا هذا، من أشهر التجارب النفسيّة على الإطلاق، إذ تمّ الكشف فيه عن الجانب المظلم للطبيعة البشرية، وأظهر أنّ الغالبية العظمى من الأشخاص على استعداد لإلحاق المعاناة بغيرها في حال أُمِرت بذلك.
ويتحدث الكتاب الذي هو نتاج دراسة موسّعة أُجريت على عدد من الرجال والنساء تتراوح أعمارهم بين ٢٠ و٥٠ عامًا، ينتمون إلى خلفيات متنوعة ومستويات تعليمية مختلفة، بعد أن جرى تقسيمهم إلى فئتين الأولى أطلقوا عليها اسم “الجلادين”، والثانية “الضحايا”، وطلبوا من الفئة الأولى إعطاء صدمات كهربائية للفئة الثانية، على أن تزداد شدّتها تدريجيًا. طبعًا، لم تكن هذه الصدمات حقيقية، إلا أن الجلادين لم يكونوا على دراية بذلك، وكان الضحايا يتظاهرون بالتعرّض للصعق الكهربائي وما ينتج عنه من ألم وعذاب وصراخ.
لكن ما أثار استغراب الباحثين هو أنّ غالبية “الجلادين” كانوا يزيدون قوّة الصعقات الكهربائية بناء على طلب معدّي الدراسة، غير مكترثين بصراخ وتوسّلات “ضحاياهم”، حتى أن ثلثي “الجلادين” عمدوا إلى استخدام الجرعة القاتلة من الصعق الكهربائي غير آبهين بحالات الإغماء التي كانت تصيب “ضحاياهم”.
وقوبلت هذه الدراسة بانتقادات واسعة على مدى خمسة عقود باعتبار أنه جرى وضع هؤلاء المتطوّعين في مواقف شديدة التوتّر وبالتالي غير مطابقة للمعايير الأخلاقية للأبحاث، ودفع بحركة “تصحيحية” في علم النفس إلى إعادة التأكد من مصداقية هذه التجارب، حتى أن البعض رفض التصديق بأن “الجلادين” كانوا على دراية بأن الصدمات حقيقية.
____ ولكن هل يتحمّل الأشخاص مسؤولية معاناة ضحاياهم؟
تقول لورا نييمي إحدى الباحثات في هذا المجال: “إنه كلما كانت قيم الفرد الأخلاقية مرتبطة بالسلطة والهياكل التقليدية، زادت احتمالية اعتقاده أن الضحايا يستحقون ما يلمّ بهم من مصائب وويلات”، لكن بالمقابل - ولحسن الحظ - تؤكد “أنه كلما تركزت قيم الأفراد الأخلاقية على مساعدة الآخرين وعلى إرساء العدل، زاد تعاطفهم مع الضحايا، وهذا ينطبق على الأشخاص بغضّ النظر عن توجهاتهم السياسية، أو عن جنسهم أو معتقداتهم أو ديانتهم”، كما أظهرت نييمي “أن قيم اللطف يمكن اكتسابها وتنميتها والمحافظة عليها”.
وهذا بالضبط ما بيّنته تجارب ستانلي ميلغرام، إذ لوحظ أنه عندما كان يترك “الجلادين ” يقررون بأنفسهم قوّة الصعق الكهربائي، كان عدد قليل جدًا منهم يفرض العقاب الأقصى على “ضحاياه”، مما يعني أن غالبية الناس ليسوا ساديين بطبيعتهم وبالتالي يرفضون إلحاق الأذى بالآخرين، كما تبيّن أن غالبية المشاركين قاوموا تعليمات التجربة عندما انضم إليهم متطوّعين عارضوا بشدة ما يحصل ورفضوا الانصياع للأوامر.
____ فهل هذا يعني أن الاتحاد ضدّ الاستبداد من الممكن أن يسقط الطغاة وأنّ الخلاص قد يكون في اختيار القائد المناسب؟
من المسلّم به أن للقادة تأثير لا يستهان به على العامة، فالقائد المسؤول الذي يمارس عمله بشكل عادل وشفّاف سواء كان ذلك في الشركات أو الجمعيات أو المناصب السياسية يرسم خارطة طريق لموظفيه أو مرؤوسيه أو أتباعه، والعكس صحيح أيضًا، مما يعني أن التشبيح وعرض العضلات سيتواصل في لبنان ومعه سيتواصل الاستفزاز و”التسلبط” والقتل في كل مرة تتضارب فيها القرارات المتخذة في الدولة مع مصالح من يعطي الأوامر لهؤلاء “الأتباع” بالتحرّك.