"لا تقف متفرجاً"
مقالات الإفتتاحيّةإعرف أكثرالحدثأنتم والحدث

في ضوء فضيحة جيرار دو بارديو: هل يمكن لـ"المقدّس" أن يعفو عن "التّوحش"؟

فارس خشّان
السبت، 30 ديسمبر 2023

في ضوء فضيحة جيرار دو بارديو: هل يمكن لـ"المقدّس" أن يعفو عن "التّوحش"؟

سارع عشرات الممثلين والمخرجين والفنانين إلى دعم الممثل الفرنسي الكبير جيرار دو بارديو، بعد ساعات قليلة من “تدشين” الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لهذا المسار “الدفاعي” عن “الوحش المقدس الذي رفع عاليًا راية فرنسا السينمائية والمسرحية والفنية”.

وتضج فرنسا، في هذه الأيّام، باسم جيرار دو بارديو، على خلفية بث تحقيق تلفزيوني، في السابع من كانون الأول (ديسمبر) الجاري، سجل مواقف هذا الممثل الفرنسي المهينة جنسيًّا للنساء، بما في ذلك بحق طفلة في العاشرة من عمرها، ما دعّم عددًا من دعاوى الاغتصاب التي كانت قد رفعتها أكثر من امرأة عملت معه.

وتعرّض جيرار دو بارديو لهجوم شرس في مواقع التواصل الاجتماعي، الأمر الذي دفع بغالبية من سبق لهم أن كرّموه أو تعاملوا معه، في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبيّة والغربيّة، إلى التبرؤ منه. وهكذا تحوّل “الوحش المقدس” إلى “الوحش المدنّس”!

ولكن، خلافًا لغيره ممّن انقلب ضدهم الرأي العام، وجد دو بارديو من يدافع عنه، نظرًا إلى تاريخه المليء بالإنجازات، من جهة أولى، واحتسابًا للخسائر التي يمكن أن تنتج من حظر إنتاجاته السينمائية والمسرحيّة والغنائية، من جهة ثانية، وحاجة كثيرين إلى مناسية لـ”يفشوا خلقهم” بالتشهير الذي أصبح “خطرًا للغاية”، مع الانتشار المبهر لمواقع التواصل الاجتماعي، من جهة ثالثة.

وأشارك شخصيًّا المدافعين عن دو بارديو الذي لا شك في أنّ حديثه الجنسي عن ابنة السنوات العشر تحديدًا، وفق ما بيّن التقرير التلفزيوني، مثير للغثيان، (أشاركهم) في مسألة جوهرية، وهي إسقاط عمليات التشهير الواسعة، لمبدأ “قرينة البراءة”، بحيث بات كل إنسان مذنبًا حتى تثبت براءته، بدل أن يكون كل إنسان بريئًا حتى تثبت إدانته.

وفي المقابل، أشاطر مهاجمي دو بارديو مسألة أساسيّة، لجهة أنّ بعض السلوكيات اللفظية المقيتة لا يطالها القانون، وإذا فعل، فإنّ القضاء بطيء للغاية، بحيث يتأخر في فصل الحق عن الباطل، إلى يوم لا يعود أحد معنيًا بما يصدره من أحكام، لأنّ الضرر يكون قد امتد إلى مستويات لا يمكن علاجها، سواء بالنسبة إلى المتهم أم بالنسبة إلى الضحيّة.

صحيح أنّ النقاش حول إشكاليّة حملات التشهير وقرينة البراءة، محتدم في فرنسا، لكنّ الصحيح أيضًا أنّ هذه مشكلة عالميّة تعني الدول العظمى كما الدول الصغرى.

ولن يكون لهذه الإشكاليّة أيّ حل علمي أو قانوني أو تقني، فالثورة الرقمية استقرّت، ونهج الناس في استعمالها ترسّخ، والمسار القضائي يستحيل أن يصبح سريعًا.

ولذلك، فإنّ الحل الوحيد الذي يلوح في الأفق يكمن في ثلاثة محاور: صحة الوقائع في حملات التشهير بحيث تبني نفسها على الحقيقة وليس على المفبرك، تكيّف “الوحوش المقدسة” على اختلاف مواقعهم مع الأخلاقيات المتطوّرة للمجتمع وعدم التعاطي معها كما لو كانت مجرّد “نكتة سمجة”، وإرفاق الثورة على “السائد اجتماعيًّا”، عند هؤلاء الذين يريدون التحرر من أعباء “الثقافة الجديدة”، بسلوكيات مستقيمة.

بهذا المعنى، وبالعودة إلى ملف جيرار دو بارديو، فإنّ دعاوى الاغتصاب التي رفعها عدد من النساء ضدّه، لم تسقطه لا فنيًّا ولا اجتماعيًّا، إذ إنّ الجميع كانوا ينتظرون “كلمة الفصل” القضائيّة، بغض النظر عن المدة الزمنية التي سوف يستغرقه لفظها. وفي هذه الحالة، فإنّ قرينة البراءة كانت محترمة للغاية. في المقابل، فإنّ سقوط دو بارديو بدأ في تلك اللحظة التي تمّ فيها فضح تعابيره المهينة جنسيًّا للنساء عمومًا ولطفلة في العاشرة، من عمرها خصوصًا. في هذه الحالة، لم يكن هناك أيّ مسار قضائي يمكن اعتماده، فمقاربات دو بارديو كانت أخلاقيّة وتعاطى معها المجتمع، مستفيدًا من مواقع التواصل الاجتماعي، على هذا الأساس، فأصدر حكمه بتحويل “الوحش المقدّس” إلى “وحش مدنّس”.

والدليل إلى ذلك أنّ دو بارديو في دعاوى الاغتصاب دافع بشراسة عن براءته، ولكنّه في ملف إهاناته الجنسيّة للنساء والأطفال، عجز عن قول أيّ كلمة لها معنى، واستفاد من انتظار الرئيس الفرنسي وعدد من زملائه مواقع التواصل الاجتماعي “على المفرق”، من أجل أن يرفع عاليًا لواء قرينة البراءة، تخفيفًا للحملة الشرسة التي تعرّض لها!

إنّ على “الوحوش المقدسة” أن تقتنع بأنّ الزمن الذي كان فيه “المقدّس” يُعفي عن “الوحوش” قد شارف على نهايته.

وفي هذا، نحن نتحدث عن الغرب، حيث استطاعت الحركة النسائية أن تتقدم خطوات نوعيّة إلى الأمام، بسبب عاملين متلازمين: أصواتهن المؤثرة جدًّا في الانتخابات ضمن الأنظمة الديموقراطيّة، ونظرتهن إلى ذواتهنّ، بحيث، وعملًا بتراكم الإنتاجات الثقافيّة والفلسفية، وصلن إلى “إفضح جنزيرك” الفرنسيّة و”أنا أيضًا” الأميركيّة، في ثورة على الرجال الذين يستغلون مناصبهم من أجل تطويع المرأة، بواسطة التحرّش الجنسي هنا، والاغتصاب هناك، والكلام الجارح هنالك.

أمّا في الشرق، فلا يزال الطريق طويلًا، إذ إنّ قلّة بدأت تفصل نفسها عن عبادة “الوحش المقدس”، وذلك لأنّ العوامل التي حرّرت نفوس النساء في الغرب لا تزال غير متوافرة في الشرق، فحيث تسود الديكتاتوريّة المتدثرة بالدين، والديموقراطية المزوّرة في الجمهوريّات المزيّفة، لا يخسر جسد النساء قيمته فحسب بل تخسر الحياة جدواها، أيضًا!

وبهذا المعنى، فإنّ الجدل الناشط حول جيرار دو بارديو يدل إلى حيويّة غربيّة، ويؤشر، في ظل ما يتم همسه من سلوكيات “الوحوش المقدسة”، إلى فضيحة… شرقية!

النهار العربي

المقال السابق
مخيمات ضخمة للفلسطينيين بطلب من السيسي

فارس خشّان

كاتب سياسي

مقالات ذات صلة

"المرأة الغامضة" وراء الشركة المرخصة لأجهزة "البيجر" المتفجرة

روابط سريعة

للإعلان معناأنتم والحدثالحدثإعرف أكثرمقالات

الشبكات الاجتماعية